منى الفخرانى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منى الفخرانى

روحانيات وتصوف اسلامى
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الحسن البصريّ... رائد المتصوّفين وسيّد التابعين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 798
تاريخ التسجيل : 30/03/2013

الحسن البصريّ... رائد المتصوّفين وسيّد التابعين Empty
مُساهمةموضوع: الحسن البصريّ... رائد المتصوّفين وسيّد التابعين   الحسن البصريّ... رائد المتصوّفين وسيّد التابعين Emptyالسبت سبتمبر 14, 2013 4:19 pm

الحسن البصريّ... رائد المتصوّفين وسيّد التابعين
دائرة معارف كاملة، فعلمه الغزير وإحاطته الواسعة، انعكست على أقواله وكتاباته، إذ قربه الفقه والحديث والقراءات واللغة والبيان والمنطق من الزهد، ليكون بذلك أحد أوائل كبار المتصوفين، إن لم يكن رائدهم جميعاً، من دون ادعاء ولا خروج ولا دروشة، بما جعله مثلاً لكل من يريد أن يسير في طريق السالكين من دون تفريط ولا إفراط، وجعله نموذجاً أمام من يطالبون بـ{التصوف الحقيقي} الذي كان عليه الصحابة والتابعون. فالبصري لم ينغلق على نفسه في صومعة، ولم يهينها في دروشة، إنما مارس التصوف وذاقه تحت مظلة الشرع.

هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، ولد في بيت أم سلمة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 21 هـ، في السنة الثانية من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ كانت والدته مولاة لأم سلمة، التي قيل إنها كانت ترضعه أحياناً، حين يشتد به الجوع وأمه غائبة. ودعا له الفاروق ذات يوم قائلاً: {اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس}. وقد حفظ الحسن القرآن في العاشرة من عمره.

ومكث البصري في وادي القرى، ثم انتقل إلى المدينة المنورة، وعاش أيام صباه في تلك البقعة الطاهرة بين أصحاب النبي وزوجاته. وفي عام 36 هـ انتقل برفقة أسرته إلى موطنه الأصلي في البصرة في العراق، التي كانت آنذاك مدينة عامرة بالفقهاء والعلماء، وتضج بمناقشات وجدل ديني وفكري واسع الأرجاء، وعميق الأثر، يتصادم فيه الجديد مع القديم، والعقل مع القلب، والوجدان مع البرهان. وكان لهذا الجدل وقعه على الحسن نفسه، وهو مشهد يلخصه مثال جلي في تاريخ الفكر والفقه الإسلامي برمته، يرتبط بواصل بن عطاء، الذي انفصل عن أستاذه حسن البصري، وشكّل حلقة تيار المعتزلة الأولى، ولم يقابل الأستاذ فعلة تلميذه بغضب ولا تكفير، ولم يستكثر ما أقدم عليه، إنما اكتفى بابتسامة، وأتبعها بقوله: {اعتزلنا واصل}، فمنح جماعة تلميذه اسمها الذي لا يزال صلباً في قلب الفكر الإسلامي، حتى هذه اللحظة.

عاش البصري في هذه المدينة، التي استمد منها كنيته، والتقى كثيرين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم، وسمع منهم. وتردد على مسجد البصرة فكان يتصدر حلقات الدرس. ولم يكتف بالعلم والفقه، بل شارك في الجهاد، إذ قاتل وهو شاب يافع في معارك وقعت شرق إيران سنة 43 هـ، وقادها الأحنف بن قيس خلال عهد معاوية بن أبي سفيان. كذلك شارك في فتح كابور مع عبد الرحمن بن سمرة، وكان المهلب بن أبي صفرة يقدمه إلى القتال، ووصفه زملاؤه من الجند بأنه كان من الشجعان الموصوفين.

في عيون الآخرين

لفت البصري انتباه من عاصروه من أهل الرواية والدراية على حد سواء، فكان له في عقولهم مكانة، وفي قلوبهم منزلة، فنقلوا إعجابهم به إلى كل من سأل عنه، أو حتى من سمع به. فها هو ثابت بن قرة يصفه بأنه {من دراري النجوم علماً وتقوى وزهداً وفصاحة، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرفه له ثانياً، قريباً ولا مدانياً، كان نظره وفق مخبره، وعلانيته وزن سريرته، يجمع مجلسه ضروب الناس، وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحرام والحلال، وهذا يتبع في كلامه العربية، وهذا يجرد له المقالة، وهذا يحكي له الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو في جميع هذا كالبحر العجاج تدفقاً، وكالسراج الوهاج تألقاً، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو بن واصل صاحب الكلام، وابن أبي إسحق صاحب النحو، وفرقد السبنجي صاحب الرقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم فمن ذا مثله، ومن يجري مجراه}.

وقال فيه محمد بن سعد: {كان الحسن فقيهاً، ثقة، حجة، مأموناً، ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، وسيماً}، وقال عنه أبو عمرو بن العلاء: {ما رأيت أفصح من الحسن البصري}.

وحين سئل خالد بن صفوان، وكان أحد فصحاء العرب، عنه قال: {إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته، وقوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له، وقد رأيته مستغنياً عن الناس زاهداً بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه طالبين ما عنده}.

مظاهر تصوّفه

يتجلى تصوف الحسن البصري في ذمه الدنيا، وإعراضه عنها، وحثه على عدم الإغراق في نعمها الزائلة، وزينتها الزائفة. وتتعد أقواله في هذا المقام حتى تشكل ملمحاً مهماً من ملامح فكره وفقهه، فها هو يقول: {الله يعطي العبد من الدنيا مكراً به، إلا كان عاجز الرأي}.

وينظر البصري إلى الدنيا بوصفها وديعة لدى البشر، وعليهم أن يردوها إلى من أودعها إياهم كما هي، من دون تمسك بها بالباطل، أو طمع فيها بغير حق، ولا انكساراً أمامها بغير سلطان نفس. وهنا أوضح: {أدركت أقواماً ما كانت الدنيا عندهم وديعة حتى ردوها إلى من ائتمنهم عليها ثم راحوا خفافاً غير مثقلين، وأدركت أقواماً كانت الدنيا تتعرض لأحدهم، وإنه لمجهود فيتركها مخافة التباعة}.

ويصل الأمر إلى أن يعد البصري عشق الدنيا والإغراق في ملذاتها إحدى كبائر الإثم، وأنها الدرب الوسيع الذي سلكه الشيطان إلى نفوس البشر، فأوقعهم في الشرك والكفر، وهنا علّق: {ما عجبت من شيء كعجبي من رجل لا يحسب حب الدنيا من الكبائر، وأيم الله إن حبها لمن أكبر الكبائر، وهل تشعبت الكبائر إلا من أجلها؟ وهل عبدت الأصنام، وعصي الرحمن إلا لحب الدنيا وإيثارها}.

وردد أيضاً: {أيها الناس، والله ما أعز هذا الدرهم أحد إلا أذله الله تعالى يوم القيامة}، وذكر أن إبليس لعنه الله، لما ضرب الدينار والدرهم، نقرهما وجعلهما على رأسه، وقال: من أحبكما فهو عبدي حقاً أصرفه كيف أشاء}. كذلك قال: {إذا أحب بنو آدم الدنيا فما أبالي ألا يعبدوا صنماً، ولا يتخذوا إلهاً غير الله رباً، حبهم الدنيا يوردهم المهالك}.

لهذا أشار البصري إلى إن {المؤمن الفطن اللبيب في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا يأنس بقربها، ولا يأسى لبعدها، ولا يأمن غيرها، للناس حال وله حال}. بل كان البصري يعتقد أن من خلوا الدنيا وراء ظهورهم هم من يسترهم الله يوم لا ظل إلا ظله: {يحشر الناس عراة يوم القيامة ما خلا أهل الزهادة في الدنيا}.

كذلك يتجلى تصوف البصري في حضه على الصبر الجميل، الذي هو في نظره {صبران صبر عند المصيبة، وصبر عند المعصية}، وأن {من قدر على ذلك فقد نال أفضل الصبرين}.

ويرتبط الصبر بالزهد والحق والفلاح في رؤية البصري، فالزاهد عنده هو {من لم يغلب الحرام صبره، والحلال شكره}، والحق لديه هو {مر لا يصبر عليه إلا من عرف حسن العاقبة، ومن رجا الثواب خاف عقابه}. والفلاح في مذهبه ينطوي على صبر عميق: {إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون}.

أما الخاصية الثالثة من خصائص التصوف لدى البصري فتتمثل في الحزن، فالمؤمن عنده يجب أن يكون حزيناً غريباً، ليس اكتئاباً ولا نفوراً مريضاً، إنما تعفف ورقة إحساس، وانشغال بما يؤلم الآخرين، ومواساة لهم على ما هم فيه من كدر.

ولهذا قيل عنه إنه كان كثير الحزن، عظيم الهيبة، وهو ما تبين صورته في قول أحد الصحابة {ما رأيت أحدا أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة}.

وقال البصري: {نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا. فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إن من عصى الله فقد حاربه، والله أدركت سبعين بدرياً، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب}.

وقال حمزة الأعمى: {كنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة. فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك.

وروى الطبراني عنه: {إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة}. وقال أحدهم: {إني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة من غير زاد ولا ماء أن يهلك}.

لا يخشى السلطة

على رغم أن البصري كان يطبق القاعدة التي تقول: {60 سنة من حاكم جائر خير من سنة بلا حاكم} خوفاً من الفوضى والاضطراب وتشرذم أركان الدولة وتحللها، فإنه لم يشجع ظالماً على ظلمه، أو مستبداً على تجبره، ولم يكن يهاب أي حاكم مهما بلغ تسلطه وتعنته وتجرؤه على حرمات الله وحقوق الناس.

عاش الحسن الشطر الأكبر من حياته في دولة بني أمية، وكان موقفه متحفظاً على الأحداث السياسية، خصوصاً ما جر إلى الفتنة وسفك الدماء، إذ لم يخرج مع أي ثورة مسلحة ولو كانت باسم الإسلام، وكان يرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى، وطمع الأعداء في المسلمين. وكان هذا الموقف ينبع أيضاً من اعتقاد الحسن في أن السلطة مفسدة، وأن الناس يخرجون من يد ظالم إلى ظالم، ولذا فإن شق إصلاح الحاكم فإنه يمكن إصلاح المحكومين من دون عنت ولا عناء شديد. أما إن كان الحاكم عادلاً صالحاً مطبقاً أحكام الله مثل عمر بن عبد العزيز، فإن الحسن كان ينصحه، ويقبل القضاء في عهده ليعينه على أداء مهمته.

وكان للبصري هيبة في نفوس الحكام، وهو ما تسجله واقعة لا تنسى. فحين ولي الحجّاج بن يوسف الثقفي العراق، وطغى في ولايته وتجبّر، كان الحسن البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدّوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله وصدعوا بكلمة الحق في وجهه، فعَلِمَ الحجاج أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلاَّسه: تبًّا لكم، سُحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفاً بين يديه، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده، وأمرهم أن يأتوا به، ويقطعوا رأسه، وانتهى الأمرُ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ، ووجفت عليه القلوبُ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلالُ المؤمن، وعزة المسلم، ووقارُ الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة، وقال له: {ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا}، فما زال يوسع له ويقول: {ها هنا}، والناس لا يصدَّقون ما يرون، حتى أجلسَه على فراشه، ووضَعَه جنبه، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج: {أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد}، ثم دعا بغالية، أحد أنواع الطيب، وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه.

ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج، وقال له: {يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإني رأيتك عندما أقبلت، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت ؟ فقال الحسن: لقد قلت: يا وليَ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته برداً وسلاماً عليَّ، كما جعلت النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم}.

وهناك واقعة أخرى تدل على شجاعة البصري وثقته في ربه ونفسه أمام أهل السلطة، وحرصه على أن يقول الحق مهما كلفه من عناء. فحين ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إليّ بالأمر من أمره فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟! فأجاب ابن سيرين والشعبي بقول فيه تقية، وقال ابن هبيرة: {ما تقول يا حسن}، فقال: {يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}.

وعلى النقيض من هذا قدم البصري نصيحة غالية إلى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في رسالة خالدة جاء فيها: {إن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها. هي كالسم، يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء. فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة. فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته، فاغتر وطغى، ونسى المعاد، فشغل بها لبه، حتى زلت عنها قدمه، فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه، وحسرات الفوت. وعاشق لم ينل منها بغيته، فعاش بغصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد. ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء سرورها مشوب بالحزن. أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبراً، ولم يضرب لها مثلاً، لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل. فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ، وعنها زاجر، فمالها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختياراً، وبسطها لاعدائه اغتراراً، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها. ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله حين شد الحجر على بطنه}.

بلغت شهرة البصري الآفاق، ووصلت الثقة فيه، والحب له إلى أقصى درجاته. وفي العام العاشر بعد المائة الأولى وفي غرة رجب ليلة الجمعة وافته المنية، فلما شاع الخبر بين الناس ارتجت البصرة كلها رجـًا لموته رضي الله عنه، فغٌسل وكفن، وصلى عليه جمع غفير في الجامع الذي أمضى عمره فيه؛ داعيـًا ومعلمـًا وواعظـًا، ثم تبع الناس جنازته بعد صلاة الجمعة، وانشغلوا في دفنه انشغالاً عميماً، حتى أنه لم تقم صلاة العصر في البصرة لانشغال الناس بتشييع هذا الرجل العظيم.

منكري الكرامات على الأولياء ينظرون للكرامة على أنها من فعل الولي

ولا ينظرون إليها على أنها فعل الله أجراه على الولي[/move]
عبد الله بن المبارك... حلية العلماء وسيّد الزاهدين
أجلُّ أهل زمنه وأعلاهم تحلياً بالخصال الحميدة. حرص على أن يقطف كل ما في وسعه من مختلف بساتين المعرفة. لم يجنح به زهده إلى ما يخالف شرع ربه. تجاذبه الجميع، فضمه السلفيون إلى طليعة {أهل السنة والجماعة} لفقهه وروايته الحديث النبوي، وجذبه المتصوفة إلى ساحتهم متمثلين بزهده وورعه وكراماته، فعّدوه أحد رعيلهم الأول. أما هو فقد قدم نموذجاً للمتصوف العامل، الذي لا تكفيه الحقيقة عن الشريعة، ولا تمنعه الشريعة من الحقيقة، ولا يسقطه أحواله في البدع.

هو عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي مولى بني حنظلة. تنتسب أمه إلى خوارزم، وأبوه إلى تركيا. ولد سنة 118 هـ بمرو في خراسان، وحفظ القرآن، ودرس الفقه والحديث، وألم باللغة العربية، بلاغة ونحواً وصرفاً. ولما بلغ الثالثة والعشرين رحل إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، واستقر فيها، وغادرها مرات عدة إلى الحجاز.

في عيون معاصريه

تداول جماعة من معاصريه أمره وصفاته وخصاله الحميدة، فقالوا إنه: {جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والشعر والفصاحة والزهد والورع والإنصاف وقيام الليل والعباة والحج والغزوة والفروسية والشجاعة والشدة في بدنه وترك الكلام في ما لا يعنيه، وقلة الخلاف على أصحابه} ولهذا قال عنه ابن حبان: {كان فيه خصال لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمان في الأرض كلها}، وقال عنه إسماعيل بن عباس: {ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه} وقال عطاء بن مسلم: {ما رأيت مثله، ولا ترى مثله} وقال عنه الجليلي في الإرشاد: {له من الكرامات ما لا يحصى.. إنه من الأبدال}

وقال الخطيب البغدادي: {كان ابن المبارك من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ ومن المذكورين بالزهد} وقال عبد الرحمن بن المهدي: {ما رأيت أعلم بالحديث من سفيان الثوري، ولا أحسن عقلاً من مالك ، ولا أقشف من شعبة، ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك} وقال الأسود بن سالم : {كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، وكان من أثبت الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام}

ومدحه الشاعر عمار بن الحسن فقال:

إذا سار عبد الله من مرو ليلة

فقد سار منها نورها وجمالها

إذا ذكر الأخيار في كل بلدة

فهم أنجم فيها وأنت هلالهـا

واتفقت جميع المصادر على أنه كان لا يكف عن طلب العلم، وأنه كان نادر المثال في هذا السبيل، إذ رحل إلى جميع الأقطار التي كان مشهوداً لها بالنشاط العلمي في عصره. وقد أتيح له أن يأخذ العلم عن بعض أعلامه مثل الإمام مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان، وهنا قال عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم: {كان ابن المبارك ربع الدنيا بالرحلة في طلب الحديث، لم يدع اليمن ولا مصر ولا الشام ولا الجزيرة والبصرة ولا الكوفة} وقد شهد له أحمد بن حنبل بذلك أيضاً، وأثنى عليه، إذ قال: {لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه}

وبلغ ولع ابن المبارك بتدوين العلم مبلغاً جعل الناس يعجبون منه، فقد سأله أحدهم مرة: {كم تكتب؟}، فأجاب: {لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد!} وعابه قومه على كثرة طلبه للحديث فقالوا: {إلى متى تسمع؟}، فقال: {إلى الممات}

زهده وورعه

قد كان الزهد القيمة الأسمى في مسلك ابن المبارك واعتقاده، فقد آمن بأن الزهاد هم الملوك الحقيقيون، وأن {سلطان الزهد أعظم من سلطان الرعية، لأن سلطان الرعية لا يجمع الناس إلا بالعصا، والزاهد ينفر من الناس فيتبعوه} والزهد عنده يجب أن يكون عميقاً ودقيقاً، متجسداً في الأعمال لا في الأقوال، فقد كان ينصح من يتبعه: {دعواك الزهد لنفسك يخرجك من الزهد}، وكان يردد دوماً: {لأن أرد درهماً من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بستمائة ألف} وتتجلى دقة حساب النفس على كل صغيرة، وإمالتها على كل ما يفضي إلى الزهد والورع، في قوله أيضاً: {لو أن رجلاً اتقى مائة شيء، ولم يتورع عن شي واحد، لم يكن ورعاً، ومن كان فيه خلة من الجهل، كان من الجاهلين} وكان يقول كذلك: {كيف يدعي رجل أنه أكثر علماً، وهو أقل خوفاً وزهداً}

وشهد له الناس بهذه العناية وهذا الحرص الشديد على تجنب أي قدر من حرام حتى ولو كان تافهاً أو صغيراً. وأوضح الحسن: {رأيت في منزل ابن المبارك حماماً طائراً، فقال لي: كنا ننتفع بفراخ هذه الحمام، فليس ننتفع بها اليوم. فسألته: ولم ذلك؟ فقال: اختلطت بها حمام غيرها، فتزاوجت بها، فنحن نكره أن ننتفع بشيء من فراخها}

وكان ابن المبارك على صلاحه وورعه متواضعاً إلى أقصى حد، وإلى درجة أنه كان ينكر على نفسه الورع والتقوى، بل كان يقول: {أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين، وأنا أشر منهم}، ثم ينشد:

الصمت أزين بالفتى

من منطق في غير حينه

والصدق أجمل بالفتى

في القول عندي من يمينه

وعلى الفتى بوقاره

سمة تلوح على جبينه

فمن الذي يخفي عليك

إذا نظرت إلى قرينه

رب امرئ متيقن

غلب الشقاء على يقينه

فأزاله عن رأيه

فباع دنياه بدينه

أحد مظاهر الزهد عند ابن المبارك عدم التكالب على الدنيا التي كان يقول عنها: {الدنيا سجن المؤمن، وأعظم أعماله في السجن الصبر وكظم الغيظ، وليس للمؤمن في الدنيا دولة، وإنما دولته في الآخرة} وكان كل ما يطلبه في حياته هو ما يقيم أوده، يوماً بيوم، فلديه {ليس من الدنيا إلا قوت اليوم فقط {. كذلك يتجلى زهده في الصمت والعزلة، فقد سئل يوماً عن قول لقمان لابنه: {إن كان الكلام من فضة فإن الصمت ذهب}، فقال: {معناه لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب} وكان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فسأله أحدهم: {ألا تستوحش؟}، فأجاب: {كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه؟} كذلك كان يعتزل مجالس المنكر واغتياب الناس فقيل له: {إذا صليت معنا لم لا تجلس معنا؟ {، فردّ: {أذهب مع الصحابة والتابعين} قيل له: {ومن أين الصحابة والتابعين؟}، فأجاب: {أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم، فما أصنع معكم وأنتم تغتابون الناس}

وكان يقول: {أهل الدينا خرجوا منها قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها} فسأله الناس: {وما أطيب ما فيها}، فأجاب: {المعرفة بالله عز وجل}

وكان من حوله يلاحظون أنه كلما ازداد علمًا، ازداد خوفًا من الله وزهدًا في الدنيا، وكان إذا قرأ أحد كتب الوعظ يذكره بالآخرة وبالجنة والنار، وبالوقوف بين يدي الله للحساب، بكى بكاء شديدًا، واقشعر جسمه، وارتعدت فرائصه، وسرى في نفسه حزن، ولا يكاد يتكلم أحد معه.

ولم يكن زهد ابن المبارك وتصوفه يجافي مذهب {أهل السنة والجماعة}، بل على النقيض من ذلك كانت له مواقف صارمة من أهل البدع والأهواء، وهو موقف المؤمن الواعي لما يدور حوله وما يحاك من الدس والتشويه والتحريف لعقيدة المسلمين، لذلك نجده يوصي أحد تلامذته فيقول: {ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة} وثمة مواقف عدة تدل على هذا، إذ قيل إن رجلاً سأله: {قد خفت الله تعالى من كثرة ما أدعو على الجهمية (وهم أهل إحدى الفرق)}، فأجابه: {لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء} وكان ابن مبارك يؤمن إيماناً جازماً بضرورة تطابق الفعل مع القول، فها هو يقول: {الإيمان قول وعمل} كذلك  كان يتبرأ من عقائد الرافضة والخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية والفلاسفة، ويبين فساد مقالاتهم ومذاهبهم، وطالما صرّح ببطلان هذه التصورات. وعلى النقيض من ذلك لم يغفل منهج أهل السنة والجماعة في الإيمان بالله بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله عليه الصلاة والسلام، والوقوف عند نصوص الكتاب والسنة والتسليم لهما، وعدم تقديم العقل عليهما أو تحكيمه فيهما، وفي احترام الصحابة والترضي عنهم وعدم الخوض في ما جرى بينهم، وكان يحذر من الرواية عمن يسبهم رضى الله عنهم. وفي هذا الشأن روى الإمام مسلم عن علي بن شقيق: {سمعت ابن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف}

مع المرأة القرآنية

إحدى أشهر القصص المرتبطة بعبد الله بن مبارك هي التي حاور فيها ما وصفت بـ'المرأة القرآنية} فقد نقل الرواة عنه قوله: {خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر المصطفى (عليه الصلاة والسلام) فيما أنا في بعض الطريق، فإذا بسواد عليها، كان لعجوز عليها درع وخمار من صوف فقلت لها: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقالت: سلام قولاً من رب رحيم. فقلت لها: يرحمك الله ما تصنعين في هذا المكان؟ فقالت: من يضلل الله فلا هادي له. فعلمت أنها ضالة عن الطريق فقلت لها: أين تريدين؟ فقالت: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. فعلمت أنها قد قضت حجها وهي تريد بيت المقدس فقلت لها: كم لك في هذا الموضع؟ فقالت: ثلاث ليال سوياً. فقلت لها: ما أرى معك طعاماً تأكلين منه؟ فقالت: هو يطعمني ويسقيني. فقلت: فبأي شيء تتوضئين؟ فقالت: فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً. فقلت لها: إن معي طعاماً فهل لك في الأكل منه فقالت: ثم أتموا الصيام إلى الليل. فقلت لها: ليس هذا شهر صيام رمضان. فقالت: ومن تطوّع خيراً فإن الله شاكر عليم. فقلت: قد أبيح لنا الإفطار في السفر، فقالت: وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. فقلت: لم لا تكلميني مثل ما أكلمك؟ فقالت: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. فقلت: فمن أين الناس أنت؟ فقالت: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً. فقلت: قد أخطأت فاجعليني في حل، فقالت: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم. فقلت: فهل لك أن أحملك على ناقتي هذه فتدركي القافلة؟ فقالت: وما تفعلوا من خير يعلمه الله. قال: فأنختها، فقالت: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم. فغضضت بصري عنها، لكن لما أرادت أن تركب نفرت الناقة فمزقت ثيابها، فقالت: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، فقلت لها اصبري حتى أعقلها، فقالت: ففهمناها سليمان. فعقلت الناقة وقلت لها: اركبي، فلما ركبت قالت: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. قال: فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح فقالت: أقصد في مشيك وأغضض من صوتك. فجعلت أمشي رويداً رويداً وأترنم بالشعر، فقالت: فاقرؤوا ما تيسر من القرآن، فقلت لها: لقد أوتيت خيرا، فقالت: وما يذكر إلا أولو الألباب. فلما مشيت بها قلت لها ألك زوج؟ فقالت: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوؤكم. فسكت ولم أكلمها حتى أدركت بها القافلة فقلت لها: هذه القافلة فما لك فيها؟ فقالت: المال والبنون زينة الحياة الدنيا. فعلمت أن لها أولاداً، فقلت: وما شأنهم في الحج؟ فقالت: وعلامات وبالنجم هم يهتدون. فعلمت أنهم أدلاء الركاب فقصدت بها الخيام وقلت هذه الخيام فما لك فيها؟ فقالت: واتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، يا يحيى خذ الكتاب بقوة. فناديت يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فإذا أنا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر منهم الجلوس قالت: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف. فمضى أحدهم فاشترى طعاماً فقدمه بين يدي فقالت: كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. قلت: الآن طعامكم علي حرام حتى تخبروني بأمرها، فقالوا: هذه أمنا لها منذ 40 سنة لم تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل فيسخط عليها الرحمن، فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

المجاهد المرابط
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alrefaee.ahlamontada.com
 
الحسن البصريّ... رائد المتصوّفين وسيّد التابعين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الجنيد... طاووس العلماء وسيّد الطائفة العاشقة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منى الفخرانى :: الفئة الأولى :: المنتدى الأول-
انتقل الى: