منى الفخرانى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منى الفخرانى

روحانيات وتصوف اسلامى
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 في السيرة الفاضلة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


المساهمات : 798
تاريخ التسجيل : 30/03/2013

في السيرة الفاضلة Empty
مُساهمةموضوع: في السيرة الفاضلة   في السيرة الفاضلة Emptyالأربعاء أبريل 10, 2013 3:23 am

في السيرة الفاضلة

إن السيرة التي بها سار وعليها مضى أفاضل الفلاسفة هي بالقول المجمل معاملة الناس بالعدل والأخذ عليهم من بعد ذلك بالفضل واستشعار العفة والرحمة والنصح للكل والاجتهاد في نفع الكل، إلا مَن بدأ منهم بالجور والظلم وسعى في إفساد السياسة وأباح ما منعته وحظرته من الهرج والعبث والفساد ومن أجل أن كثيراً من الناس تحملهم الشرائع والنواميس الرديئة على السيرة الجائرة كالديصانية والمحمرة وغيرهم ممن يرى غش المخالفين لهم واغتيالهم، والمنانية في امتناعهم من سقى مَن لا يرى رأيهم وإطعامه ومعالجته ن كان مريضاً، ومن قتل الأفاعي والعقارب ونحوها من المؤذية التي لا طمع في استصلاحها وصرفها في وجهٍ من وجوه المنافع، وتركهم التطهر بالماء ونحوها من الأمور التي يعود ضرر بعضها على الجماعة وبعضها على نفس الفاعل لها، ولم يمكن نزع هذه السيرة الرديئة عن هؤلاء وأشباههم لألا من وجوه الكلام في الآراء والمذاهب، وكان الكلام في ذلك مما يجاوز مقدار هذا الكتاب ومغزاه، لم يبق لنا من الكلام في هذا الباب إلا التذكير بالسيرة التي إذا سار بها الإنسان سلم من الناس وأُعطي منهم المحبة. فنقول إن الإنسان إذا لزم العدل والعفة وأقل من مماحكة الناس ومجاذبتهم سلم منهم على الأمر الأكثر، وإذا ضم إلى ذلك الإفضال عليهم والنصح والرحمة أُوتي منهم المحبة. وهاتان الخلتان هما ثمرتا السيرة الفاضلة، وذلك كافٍ في غرضنا من هذا الكتاب

( رسائل فلسفية - الرازي ) في طلب الرُتَب والمنازل الدنيائيّة

قد قدمنا في أبواب من هذا الكتاب جمل ما يُحتاج إليه في هذا الباب، غير أنا من أجل شرف الغرض المقصود بهذا الباب وعِظَم نفعه مُفرِدوه بكلام يخصه وناظمون ما تقدم من النكت والمعاني فيه، وضامّون إليه ما نرى أنه يعين على بلوغه واستتمامه فنقول: إن من يريد تزيين نفسه وتشريفها بهذه الفضيلة وإطلاقها وإراحتها من الأسر والرق والهموم والأحزان التي تطرقه وتفضي به إلى الهوى الداعي إلى ضد الغرض المقصود بهذا الباب، ينبغي أن يتذكر ويخطر بباله أولا ما مر لنا في فضل العقل والأفعال العقلية، ثم ما ذكرنا في زم الهوى وقمعه ولطيف مخادعه ومكايده وما قلنا في اللذة وحددناها به، ثم ليجد التثبت والتأمل ويكرر قراءة ما ذكرنا في باب الحسد حيث قلنا إنه ينبغي للعاقل أن يتأمل أحوال الناس وما ذكرنا في صدر باب دفع الغم حتى يقتلها فهما وتستقر وتتمكن في نفسه، ثم ليقبل على فهم ما نقول في هذا الموضع

أقول: إنه من أجل ما لنا من التمثيل والقياس العقلي كثيرا ما نتصور

عواقب الأمور وأواخرها فنجدها وندركها كأن قد كانت ومضت فنتنكب الضارة منها ونسارع إلى النافعة. وبهذا يكون أكثر حسن عيشنا وسلامتنا من الأشياء المؤذية الرديئة المتلفة. فحّق علينا أن نعظم هذه الفضيلة ونجلها ونستعملها ونستعين بها ونمضي أمورنا على إمضائها إذ كانت سبيلا إلى النجاة والسلامة ومفضلة لنا على البهائم الهاجمة على ما لا تتصور أواخره وعواقبه. فلننظر الآن بعين العقل البريء من الهوى في التنقل في الحالات والمراتب لنعلم أيها أصلح وأروح وأولى بالعقل طلبه ولزومه ونجعل مبدأ نظرنا في ذلك من هاهنا. فنقول: إن هذه الأحوال ثلاث، الحالة التي لم نزل عليها وربينا ونشأنا فيها، والتي هي أجل وأعلى منها، والتي هي أدنى وأخس منها. فأما أن النفس تؤثر وتُحبّ وتتعلق من أول وهلة بغير نظر ولا فكر بالحالة التي هي أجل وأعلى فذاك ما نجده من أنفسنا، غير أنا لا نأمن أن يكون ذلك ليس عن حكم العقل بل عن الميل وبدار الهوى. فلنستحضر الآن الحجج والبراهين ونحكم بعد بحسب ما توجبه فنقول: إن التنقل من الحالة التي لم نزل عليها المألوفة المعتادة لنا إلى ما هو أجل منها إذا نحن أزلنا عنها الاتفاقات النادرة العجيبة لا يكون إلا بالحمل على النفس وإجهادها في الطلب. فلننظر أيضا هل ينبغي لنا أن نجهد أنفسنا ونكدها في الترقي إلى ما هو أجل من حالتنا التي قد اعتدناها وألفتها أبداننا أم لا. فنقول: إن من نمى بدنه ونشأ ولم يزل معتادا لأن لا يؤمره الناس ولا تسير أمامه وخلفه

المواكب إن هو اهتم واجتهد في بلوغ هذه الحالة فقد مال عن عقله إلى هواه وذلك أنه لا ينال هذه الرتبة إلا بالكد والجهد الشديد وحَملِ النفس على الهول والخطر والتغرير الذي يؤدي إلى التلف في أكثر الأحوال، ولن يبلغها حتى يصل إلى نفسه من الألم أضعاف ما يصل إليه مكن الالتذاذ بها بعد المنال. وإنما يخدعه ويغرُّه في هذه الحال تصوُّره نيل المطلوب من غير أن يتصور الطريق إليه كما ذكرنا عند كلامنا في اللذة. حتى إذا نال ووصل إلى ما أمل لم يلبث إلا قليلاً حتى يفقد الغبطة والاستمتاع بها، وذلك أنها تصير عنده بمنزلة سائر الأحوال المعتادة المألوفة، فيقل التذاذهُ بها وتشتد وتغلظ المؤن عليه في استدامتها والتحفظ بها ولا يمكنه الهوى من تركها والخروج عنها - كما ذكرنا عند كلامنا في زمّ الهوى - فإذا هو لم يربح شيئاً وخسر أشياءِ. وأما قولنا إنه لم يربح شيئاً فمن أجل أن هذه الحالة الثانية إذا هو ألفها واعتادها صارت عنده بمنزلة الأولى وسقط عنه سروره واغتباطه بها. وأما قولنا إنه خسر أشياء كثيرة فالعناء أولاً والخطر والتغرير الذي يُسلكه إلى هذه الحالة. ثم الجهد في حراستها والخوف من زوالها والغم عند فقدها والتعويد للنفس الكون فيها وطلب مثلها. وكذلك نقول في حالة تفوق الكفاف. وذلك أن مَن كان بدنُه معتاداً للغذاء اليابس واللباس المتوسط إن هو جهد نفسه حتى يتنقل عنهما إلى الغذاء اللين واللباس الفاخر فإن شدة التذاذه بهما تسقط عنه إذا اعتادهما حتى يصيرا عنده بمنزلة الأولين ويحصل عليه من فضل العناء والجهد في نيل هذين واستدامتها والخوف من تنقُّلهما عنه واعتياد النفس لهما ما كان موضوعا عنه قبل ذلك

وكذلك نقول في العز والجاه والنباهة وسائر المطالب الدنيائية إذ ليس من مرتبة تُنال ويُبلغ إليها إلا وُجد الاغتباط والاستمتاع بها يقل بعد نيلها ويصغر في كل يوم حتى يضمحل وتصير عند نائلها بمنزلة الحالة التي عنها انتقل ومنها ارتقى ويحصل عليه من أجلها فضل مؤن وغموم وأحزان لم تكن فيما مضى. وذلك أنه لا يزال يستقل لنفسه ما هو فيه ويجتهد في الترقي إلى ما هو أعلى منه ولا يصير إلى حالة ترضاها نفسه بتّةً بعد وصوله إليها وتمكنه منها. فأما قبل الوصول فقد يريه الهوى الرضى والقنوع بالحالة المقصودة، وذلك من أعظم خُدَعِهِ وأسلحته ومكايده في اجتهاده وجَرِّه إلى الحالة المطلوبة، حتى إذا حصلت له تطلّع إلى ما هو فوقها. ولا تزال تلك الحالة حاله ما صاحب الهوى وأطاعه، نحو ما قلنا في هذا الكتاب إنه من أعظم مكايد الهوى وخُدَعه، من أجل أن الهوى يتشبه في مثل هذه الأحوال بالعقل ويدلِّس نفسه ويوهم أنه عقلي لا هوائي وأن ما أراه خيرة لا شهوة بأن يدلِّى ببعض الحِجاج ويقنع بعض الإقناع، لكن إقناعه وحجته هذه لا يلبث إذا قوبلت بالنظر المستقيم أن تدحض وتبطل. والكلام في الفرق بين ما يريه العقل وبين ما يريه الهوى باب عظيم من أبواب صناعة البرهان ليس نقله إلى هذا الموضع اضطرارياً، لأنا قد لوحنا منه في غير موضع من كتابنا هذا يما نكتفي به في غرضه،

ولأنا ذاكرون جُملاً منه مجزئةً كافيةً لِما يراد منه في بلوغ مغزى هذا الكتاب، فأقول: إن العقل يُرى ويختار ويؤثر الشيء الأفضل الأرجح الأصلح عند العواقب وإن كان على النفس منه في أوائله مؤنه وشدة وصعوبة. وأما الهوى فأنه بالضد من هذا المعنى، وذلك أنه يختار أبداً ويؤثر ما يدفع به الشيء المؤذي المماس الملازق له في وقته ذلك وإن كان يُعقب مضرةً، من غير نظرٍ فيما يأتي من بعد ولا روية فيه. مثال ذلك ما ذكرنا قبل عند الكلام في زم الهوى من أمر الصبي الرمد المؤثر لأكل التمر واللعب في الشمس على أخذ الهليلج والحجامة ودواء العين. والعقل يرى صاحبه ما له وعليه، فأما الهوى فإنه يرى أبداً ما له ويعمى عمّا عليه. ومثال ذلك ما يَعمى عنه الإنسان من عيوب نفسه ويبصر قليل محاسنه أكثر مما هي. ولذلك ينبغي للعاقل أن يتهم رأيه أبداً في الأشياء التي هي له لا عليه ويظن به أنه هوى لا عقل ويستقصي النظر فيه قبل إمضائه. والعقل يرى ما برى بحجة وعذر واضح، وأما الهوى فإنه إنما يقنع ويرى بالميل والموافقة لا بحجة يمكن أن ينطق بها ويعبر عنها وربما تعلق بشيء منذ ذلك إذا أخذ يتشبه بالعقل، غير أنه حجاج ملجلج منقطع وعذر غير بين ولا واضح. ومثال ذلك حالة العشاق والذين قد أُغروا بالسكر أو بطعام رديء ضار وأصحاب المذهب ومن ينتف لحيته دائباً ويعبث ويولع بشيء من بدنه، فإن بعض هؤلاء إذا سئل عن عذره في ذلك لم ينطق بشيء بتةً ولا كان عنده في نفسه شيء يمكن أن يحتج به أكثر من ميلٍ إلى ذلك الشيء وموافقته ومحبةٍ طبيعية غير منطقية. وبعضهم يأخذ ويحتج ويقول

فإذا نقض عليه رجع إلى اللجلجة والتعلق بما لا معنى تحته واشتد ذلك عليه وغضب منه وأبلغ إليه ثم ينقطع ويثوب بعد ذلك. فهذه الجمل كافية في هذا الموضع من التحفظ من الهوى والمرور معه من غير علم به

وإذ قد بينا في الترقِّي إلى الرتب العالية من الجهد والخطر واطراح النفس فيما تغتبط ولا تُسر به إلا قليلاً، ثم تكون عليها منه أعظم المؤن والشدائد مما كان موضوعاً عنها في الحالة الأولى ولا يمكنها الإقلاع والرجوع عنه، فقد بان أن أصلح الحالات حالة الكفاف والتناول لذلك من أسهل ما يمكن من الوجوه وأسلمها عاقبةً، ووجب علينا أن نؤثر هذه الحالة ونقيم عليها إن كنا نريد أن نكون ممن سعد بعقله وتوقى به الآفات الرابصة الكامنة في عواقب اتباع الهوى وإيثاره ويكمل لنا الانتفاع بالفضل الإنسي، وهو النطق الذي قد فضلنا به على البهائم. فإن نحن لم نقدر ولم نملك الهوى هذه الملكة التامة التي نطرح معها عنا كل فاضل عن الكفاف فلا أقل من أن يقتصر مَن كان معه منا فضلٌ عن الكفاف على حالته المعتادة المألوفة ولا يكد نفسه ويجهدها ويخاطر بها في التنقل عنها. فإن اتفق لنا التمكن من حالة جليلة من غير جهدٍ للنفس ولا غرر بها فإن الأصلح والأولى ترك الانتقال إليها، لأنا لا نعدم منها الآفات التي عددناها العارضة لنا عن بلوغ الرتبة التي قصدناها بعد نيلها وبلوغها. فإن انتقلنا إليها فينبغي أن لا نغير شيئاً مما به قوام أجسادنا من المآكل والمشارب والملابس وسائر ما يتبع ذلك من حالاتنا وعاداتنا الأولى لئلا تكسب أنفسنا عادةَ فضلٍ من السرف وحالةً تطالبنا بها إن فقدت هذه الحالة الثانية، ولئلا يبلغ الغم إلينا بفقدها متى فقدت، وإلا كنا منحرفين عن عقولنا إلى هوانا وواقعين لذلك في البلايا التي ذكرناها.

( رسائل فلسفية - الرازي )

فصل وَاعْلَم أَنه لَيْسَ لسرعة الانتقام وتعجيل الْعقُوبَة والإعراض عَن الصفح وَقلة الرَّغْبَة فِي الْعَفو سَبَب سوى قُوَّة الْغَضَب فلنذكر مِنْهُ جملا موجزة

قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ الشَّديد بالصرعة إِنَّمَا الشَّديد من يمسك نَفسه عِنْد الْغَضَب

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من كظم غيظا وَهُوَ يقدر أَن يمضيه مَلأ الله قلبا أمنا وإيمانا وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا غضب أحدكُم وَكَانَ قَائِما فليقعد أَو قَاعِدا فليضطجع وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِذا غضِبت فاسكت وَقَالَ لَهُ رجل أوصني قَالَ لَا تغْضب

وَقيل الْغَضَب غول الْعقل وَقيل الْغَضَب مِفْتَاح الشَّرّ وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء الْغَضَب يفْسد الْإِيمَان كَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل وَقيل إِذا دخل الْغَضَب على الرجل الْعَاقِل الْوَرع اذْهَبْ مِنْهُ الْعقل والورع فَكيف بِمن لَا عقل وَلَا ورع

وَقَالَ سهل بن هَارُون ثَلَاثَة من المجانين وَإِن كَانُوا من الْعُقَلَاء الغيران والغضبان والسكران وَقَالَ ابْن المعتز الْغَضَب يصدي الْعقل حَتَّى لَا يرى صَاحبه صُورَة حسن فيفعله وَلَا صُورَة قبح فيجتنبه وَقَالَ أول الْغَضَب جُنُون وَآخره نَدم وَقَالَ لَا يحملنك على اقتراف إِثْم فتشفى غيضك وتسقم دينك وَقَالَ قُوَّة الْحلم على الْغَضَب أفضل من قُوَّة الانتقام وَقَالَ ابق لرضاك من غضبك وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء رَأس الْأَدَب قطع الْغَضَب وَقَالَ أسْرع النَّاس جَوَابا من لم يغْضب وَقَالَ آخر من يملك غَضَبه ويكظم غيظه فقد كمل عقله

وَقَالَ بَعضهم التباعد من غضب الله أَن لَا يغْضب العَبْد فَإِن ق 24 بَدْء الْغَضَب من الْكبر وَالْحمية والأنفة قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء أقرب من العَبْد غضب الله تَعَالَى إِذا غضب وَنظر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد إِلَى الرشيد وَقد اشْتَدَّ غَضَبه على رجل فخاف أَن يستفزه الْغَضَب فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا تغْضب لله فَلَا تغْضب بِمَا لَا تغْضب بِهِ لنَفسك فيغضب عَلَيْك

وَفِي بعض كتب الله الْمنزلَة يَا ابْن آدم اذْكُرْنِي حِين تغْضب أذكرك حِين أغضب

وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء احْتِمَال الصَّبْر عِنْد الْغَضَب اسْلَمْ من إطفائه بِإِظْهَار السَّفه وَقيل يَنْبَغِي للسُّلْطَان العجول أَن يحذر الطيش وَالْغَضَب وَالْحَد فَإِن السُّلْطَان الغضوب المفرط فِي الْعقُوبَة يهْلك نَفسه وسلطانه ورعيته

وَدفع أردشير إِلَى رجل كَانَ يقوم على رَأسه ثَلَاثَة كتب وَقَالَ إِذا رَأَيْتنِي وَقد اشْتَدَّ غَضَبي على أحد فادفع إِلَيّ الْكتاب الأول ثمَّ الثَّانِي ثمَّ الثَّالِث فَاشْتَدَّ يَوْمًا غَضَبه على رجل فَدفع إِلَيْهِ الأول فَإِذا فِيهِ أمسك فَإنَّك لست بإله وَإِنَّمَا أَنْت جَسَد يُوشك أَن يفنى وَيَأْكُل بعضك بَعْضًا وَدفع إِلَيْهِ الثَّانِي فَإِذا فِيهِ أرْحم الْعباد ترحم فِي الْمعَاد وَدفع إِلَيْهِ الثَّالِث فَإِذا فِيهِ أحمل اخلق على الْحق فَلَا يسعك إِلَّا ذَلِك قَالَ مُعَاوِيَة مَا غَضَبي على من لَا أملك وَمَا غَضَبي على من أملك .

( تهذيب الرياسة وترتيب السياسة - القلعي )

والأصدقاء صنفان

أَحدهمَا الأصفياء المخلصون فِي الصداقة فَيَنْبَغِي للمرء أَن يديم ملاطفتهم وتعهد أَحْوَالهم وأسبابهم وإهداء مَا يستحسنه وَمَا تيَسّر لَهُ إِلَيْهِم فِي كل وَقت وَيخْفى الْحَال فِيمَا بَينه وَبينهمْ بِغَيْر أَن يظْهر مِنْهُ ملال أَو تَقْصِير

ويجتهد فِي الأكثار مِنْهُم غَايَة الْجهد فَإِن الصّديق زين الْمَرْء وعضده وعونه وناصره ومذيع فضائلة وكاتم هفواته وَمَا حَيّ زلاته وَمهما كَانَ هَؤُلَاءِ أَكثر كَانَت أَحْوَال الْمَرْء فِيمَا بَينهم أحسن وأقوم

والصنف الآخر الأصدقاء فِي الظَّاهِر عَن غير صدق فِيمَا يظهرونه بل بتشبه وتصنع فَيَنْبَغِي للمرء أَن يجاملهم وَيحسن إِلَيْهِم وَلَا يطلعهم عَن شَيْء من أسراره وخصوصا من عيونه وَلَا يلقى إِلَيْهِم من خَواص أَحَادِيثه وأفعاله وأحواله وَلَا يحثهم عَن نعْمَة وَلَا عَن أَسبَاب مَنَافِعه

وليجتهد فِي استمالتهم وَالصَّبْر مَعَهم بِحَسب الظَّاهِر دون أَخذهم بِالْبَاطِلِ وَلَا يَأْخُذهُمْ بالتقصير وَلَا يقطع عتابهم فِيمَا يَقع مِنْهُم من التَّقْصِير وَلَا يجازهم على ذَلِك فَإِنَّهُ مهما فعل ذَلِك ترجى صَلَاحهمْ ورجوعهم إِلَى مُرَاده ولعلهم يصيرون فِي رُتْبَة الأصفياء لَهُ وَلَيْسَ شَيْء أدل على صدق الإخاء وَإِظْهَار الْوَفَاء وَلَا أَشد استجلابا للمحبة وَوُجُوب الْحق من تعهد أَحْوَال أصدقاء الأصدقاء فَإِن الْمَرْء إِذا رأى صديقه وَهُوَ يتعهد أَحْوَال أخلانه والمتصلين بِهِ يسْتَدلّ بذلك على صدق محبته لَهُ ويثق بوداده ويقوى أمله ورجاؤه فِيهِ وَأفضل مَا يَسْتَعْمِلهُ الْمَرْء مَعَ أصدقائه هُوَ أَن يتعهد أَحْوَالهم عِنْد الْحَاجة والفاقة ويؤاسيهم بِمَا يُمكنهُ من غير أَن يحوجهم إِلَى المسئلة ويتعاهد أقاربهم وعائلاتهم إِذا مَاتُوا فَإِنَّهُ مَتى شهر بذلك رغب صداقته كل أحد وَبِذَلِك يكثر أصدقاؤه.

( كتاب السياسة - الفارابي )
أجناس الناس]

واعلم أنّك ستصحب من الناس أجناسا متفرّقة حالاتهم، متفاوتة منازلهم، وكلّهم بك إليه حاجة، وكلّ طائفة تسدّ عنك كثيرا من المنافع لا يقوم به من فوقها، ولعلّهم مجتمعون على نصيحتك والشّفقة عليك. فمنهم من تريد منه الرأي والمشورة، [ومنهم من تريده للحفظ والأمانة] ، ومنهم من تريده للشّدّة والغلظة، ومنهم من تريده للمهنة. وكلّ يسدّ مسدّه على حياله. وقد قيل في الحكمة: «إنّ الخلال تنفع حيث لا ينفع السّيف» .

ولا تخلينّ أحدا منهم- عظم قدره أو صغرت منزلته- من عنايتك وتعهّدك بالجزاء على الحسنة، والمعاتبة عند العثرة؛ ليعلموا أنّهم منك بمرأى ومسمع. ثمّ لا تجوزنّ بأحد منهم حدّه، ولا تدخله فيما لا يصلح له، تستقم لك حاله، ويتّسق لك أمره.

واعلم أنّه سيمرّ بك في معاملات الناس حالات تحتاج فيها إلى مداراة أصناف الناس وطبقاتهم، يبلغ بك غاية الفضيلة فيها، وكمال العقل والأدب منها، أن تسالم أهلها وتملك نفسك عن هواها، وتكفّ من جماحها، بالأمر

ذي لا يحرجك في دينك ولا عرضك ولا بدنك، بل يفيدك عزّ الحلم، وهيبة الوقار. وهي أمور مختلفة، تجمعها حال واحدة.

منها: أن تأتي محفلا فيه جمع من الناس، فتجلس منه دون الموضع الذي تستحقّه حتى يكون أهله [الذين] يرفعونك، فتظهر جلالتك وعظم قدرك.

ومنها: أن يفيض القوم في حديث، عندك منه مثل ما عندهم أو أفضل، فيتنافسون في إظهار ما عندهم، فإن نافستهم كنت واحدا منهم، وإن أمسكت اقتضوك ذلك، فصرت كأنّك ممتنّ عليهم بحديثك، وأنصتوا لك ما لم ينصتوا لغيرك.

ومنها: أن يتمارى جلساؤك- والمراء نتاج اللّجاجة وثمرة أصلها الحميّة- فإن ضبطت نفسك كان تحاكمهم إليك، ومعوّلهم عليك.

واعلم أنّ طبع النّفوس- إذ كان على حسب العلوّ والغلبة- أنّ في تركيبها بغض من استطال عليها. فاستدع محّبة العامّة بالتّواضع، ومودّة الأخلّاء بالمؤانسة والاستشارة، والثّقة والطّمأنينة.

واعلم أنّ الذي تعامل به صديقك هو ضدّ ما تعامل به عدوّك. فالصّديق وجه معاملته المسالمة، والعدوّ وجه معاملته المداراة والمواربة، هما ضدّان يتنافيان، يفسد هذا ما أصلح هذا، وكلّما نقصت من أحد البابين زاد في صاحبه، إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير. فلا تسلم بالمواربة صداقة، ولا تظفر بالعدوّ مع الاستسلام إليه. فضع الثّقة موضعها، وأقم الحذر مقامه، وأسرع إلى التفهّم بالثّقة، ولا تبادر إلى التّصديق، ولا سيّما بالمحال من الأمور.

فصل في بيان تفضيل الخيل على سائر البهائم وغيرها





قال الإنسي للأرنب: أقصِرْ فقد أكثرت اللوم والذم للخيل، ولوعلمت أنها خير حيوان سَخَّرته الإنس، لما تكلمت بهذا الكلام.قال الملك للإنسيّ: وما تلك الخيريّة التي قلتها? اذكُرْها.قال: خِصالٌ محمودة، وأخلاق مَرضيّة، وسيرة عجيبة، من ذلك حسن صورتها، وتناسب أعضاء أبدانها، وبنية هيكلها، وصفاء لونها، وحُسن شَعرها، وسُرعة عدوها، وطاعتها لفارسها، كيف شاء وكيق أراد صرفها، انقادت له يَمنةً ويسرةً، وقُدّاماً وخلفاً في طلب الهروب؛ وذكاء نفسها، وجودة حواسِّها، وحسن آدابها، ربما لاتبول ولا تَروث ما دام راكِبها عليها، ولا تحرِّك ذنبها إذا ابتلّ شعر ذنبها لئلا يُصيب صاحبها، ولها قوة الفيل وتحمل راكباً بخوذته وجَوْشَنه وسلاحه، مع ما لها من السّرج واللجام والتجافيف وآلة الحديد نحوألف رطل عند سُرعة العَدْو، ولها صبر الحمار عند اختلاف الطعن في صدرها ةنحرها في الهيجاء، وسُرعة عدوها في الغارات والطَّلَب كحَملات السِّرحان، وتمشي كمشي السِّنَّور في التبختر، وهرولةً كذئبٍ يتنقّل، وعطفاتٍ أيضاً كعطفات جُلمود الصخر إذا حطّه السيل، ومبادرةً للعدوفي الرهان كمن يطلب الحَلْبة.قال الأرنب: نعم ولكن لها، مع هذه الخصال المحمودة والأخلاق الجميلة، عيبٌ يُغطي هذه الخصال كلها.فقال الملك: ما هو? بيّن لي!

قال: الجَهالة وقلّة معرفةٍ بالحقيقة، وذلك أنه يعدوتحت عدوصاحبه الذي لم يَره قط في الهرب، مثل ما يعدوتحت صاحبه الذب وُلِد في داره وتربّى في منزله في الطلب؛ ويحمل عدوصاحبه إليه في طلبه كما يحمل صاحبه في طلب عدوّه؛ وما مَثله في هذه الخصال إلاّ كمثل السيف الذي لا روح فيه ولا حس ولا شعور ولا معرفة، فإنه يقطع عُنق صيقله كما يقطع عنق من أراد كسره وتعويجه وعيبه، إنه لا يعرف الفرق بينهما.ثم قال الأرنب: ومثل هذه الخصال موجودةٌ في بني آدم، وذلك أن أحدهم ربما يعادي والديه وصاحبه وإخوانه وأقرباءه ويَكِيدُهم ويُسيء إليهم مثل ما يفعله بالعدوالبعيد الذي لم ير منه براً ولا إحساناً قط. وذلك أن هؤلاء الإنس يشربون ألبان هذه الأنعام كما يشربون ألبان أُمهاتِهم، ويركبون ظهور هذه البهائم كما يركبون أكتاف آبائهم صغاراً، وينتفعون بأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين؛ ثم آخر الأمر يذبحونها ويسلخونها أويَشقُّون أجوافها، ويقطعون مفاصلها، ويذيقونها نار الطبخ والشَّيّ، ولا يرحمونها ولا يذكرون إحسانها إليهم وما نالوا من فضلها وبركتها.فلما فرغ الأرنب من لومه الإنس والخيل وما ذكر من عيوبهم، قال الحمار: لا تُكثر من اللوم، فإنه ما من أحدٍ من الخلق أُعطي فضائل ومواهب جمةً إلاّ وقد حُرم ما هوأكثر منها؛ وما من أحدٍ حُرم مواهب إلاّ وقد أُعطي شيئاً لم يُعطَه غيره، لأن مواهب الله كثيرةٌ لا يستوفيها كلها شخصٌ واحد ولا نوعٌ ولا جنسٌ واحد، بل فُرِّقت على الخلق طُرّاً، فمُكثِرٌ ومُقِلٌّ، وما من شخصٍ آثار الربوبيّة فيه أظهرُ إلاّ ورِقُّ العبودية عليه أبْيَنُ، مثل ذلك نيِّرا الفلك وهما الشمس والقمر، فإنهما لما أُعطيا من مواهب الله حظّاً جزيلاً من النور والعظمة والظهور والجلالة، حتى إنه ربما توهَّم أنهما ربّان إلهان لبيان آثار الرُّبوبيّة فيهما، حُرما بدل ذلك التحرُّزَ من الكسوف، ليكون دليلاً لأُولي الألباب على أنهما لوكانا إلهين لما انكسفا، وهكذا حُكم سائر الكواكب لمّا أُعطيت الأنوار الساطعة والأفلاك الدائرة والأعمار الطويلة، حُرمت التحرُّز من الاحتراق والرجوع والهبوط، لتكون آثار العبودية عليها ظاهرةً. وهكذا حُكم سائر الخلق من الجن والإنس والملائكة، فما منها أحدٌ أُعطي فضائل جمّةً ومواهب جزيلةً إلاّ وقد حُرم ما هوأكبر وأجلّ، وإنما



الكمال لله الواحد القهَّار العزيز الغفّار الشديد العقاب، ومن أجل ما ذكرنا قيل:

ولست بمُستَبْقٍ أخاً لا تَـلـومُـه على شَعَث، أيُّ الرِّجالِ المُهذَّب!

فلما فرغ الحمار من كلامه تكلم الثور وقال: لكن ينبغي لمن وفُر حظه من مواهب الله تعالى أن يؤدّي شُكرها، وهوأن ينصدَّق من فضل ما أُعطي على من قد حُرم ولم يُرزَق منها شيئاً.أما ترى الشمس لما وفُر حظها جزيلاً من النور تُفيض من نورها على الخلق ولا تمُنّ عليهم! وكذلك القمر والكواكب كل واحدة على قدره، وكان سبيل هؤلاء الإنس لما أُعطُوا من مواهب الله تعالى ما قد حُرم غيرهم من الحيوان أن يتصدّقوا عليها ولا يَمُنّوا.ولما فرغ الثور من كلامه ضجّت البهائم والأنعام وقالت جميعاً: ارحمنا أيها الملك العدل الكريم؛ وخذ بأيدينا وخلِّصنا من جور هؤلاء الإنس الآدميين الظَّلَمة! فالتفتالملك عند ذلك إلى جماعة ممن حضر من حُكماء الجِن وعلمائهم فقال: ألا تسمعون شِكاية هذه البهائم والأنعام وما يَصِفون من جور بني آدم عليها وظلمِهم لها وتعدّيهم عليها وقِلّة رحمتهم بها?



قالوا: قد سمعنا كل ما قالوا، وهوحقٌّ وصدق ومُشاهَدٌ منهم ليلاً ونهاراً، لا يخفى على العقلاء ذلك. ومن أجل ذلك هربت بتوالجانّ من بين أيديهم وظهرانَيهم إلى البراري والقفار والمَفاوِز والفَلوات ورؤوس الجبال والتِّلال وبطون الأودية وسواحل البحار، لما رأوا من قبيح أفعالهم، وسوء أعمالهم، ورداءة أخلاقهم، وتركت أن تأوي ديار بني آدم. ومع هذه الخصال كلّها لا يتخلَّصون من سوء ظنهم ورداءة أخلاقهم واعتقادهم في الجن، وذلك أنهم يقولون ويعتقدون أن للجن في الإنس نزغاتٍ وخبَطاتٍ وفزعاتٍ في صبيانهم ونسائهم وجُهّالهم، حتى إنهم يتعوَّذون من شر الجن بالتعاويذ والرُّقى والأحراز والتمائم وما شاكلها. ولم يروا قط جِنِّيّاً قتل إنسياً، أوجرحه، أوأخذ ثيابه، أوسرق متاعه، أونقب داره، أوفتق جيبه أوبتر كُمّه، أوفَشَّ قُفل دكانه، أوقطع على مسافرٍ، أوخرج على السلطان، أوأغار غارةً، أوأخذ أسيراً، وكلّ هذه الخصال توجد فيهم ومنهم بعضاً لبعض، ليلاً ونهاراً، ثم لا يتوبون ولا هم يَذكُرون.فلما فرغ القائل من كلامه نادى منادٍ: ألا أيها الملأ أمسيتم، فانصرفوا إلى مساكنكم مُكرَّمين لتعودوا غداً آمنين! فصل في بيان منفعة المشاورة لذوي الرأي ثم إن الملك لما قام من المجلس خلا بوزيره بيراز، وكان رجلاً عاقلاً رزيناً فيلسوفاً حكيماً، فقال له الملك: قد شاهدت المجلس وسمعت ما جرى من هؤلاء الطوائف الوافدين من الكلام والأقاويل، وعلمت فيما جاؤوا له، فبماذا تشير أن نفعل بهم، وما الرأي الصواب الذي عندك? قال الوزير: أيَّد الله الملك وسَدَّده وهداه الرشاد؛ الرأي الصواب عندي أن يأمر الملك قُضاة الجِن وفقهاءها وحكماءها وأهل الرأي أن يجتمعوا عنده ويستشيرهم في هذا الأمر، فإن هذه قصةعظيمة وخَطْبٌ جليل وخصومة طويلة، والأمر فيها مُشكِلٌ جدّاً والرأي مُشتركٌ والمشاورة تزيد ذوي الرأي الرصين بصيرةً، وتُفيد المتحير رَشَداً، والحاوم اللبيب معرفةً ويقيناً.فقال الملك: نِعمَ ما رأيت وصواب ما قلت. ثم أمر الملك بعد ذلك بإحضار قضاء الجِن من آل جرجيس، والفقهاء من بني ناهيد، وأهل الرأي من بني بيران الحكيم، والحكماء والفلاسفة من بني كَيوان، وأهل الصَّرامة والعزيمة من آل بَهرام. فلما اجتمعوا عنده خلا بهم ثم قال لهم: قد علمتم ورود هذه الطوائف إلى بلادنا ونزولهم بساحتنا، ورأيتم حضورهم مجلسنا، وسمعتم أقاويلهم ومناظراتهم وشِكاية هذه البهائم الأسيرة من جور بني آدم، وقد استجاروا بنا واستذَمُّوا بذِمامنا، وتحرّموا بطعامنا، فماذا ترون وما الذي تشيرون أن نفعل بهم? قال رأس الفقهاء من أهل ناهيد: بسط الله يد الملك بالقُدرة، ووفّقه للصواب! أما الرأي عندي فهوأن يأمر الملك هذه البهائم أن يكتبوا قصتهم ويذكروا فيها ما يَلقون من جور بني آدم، ويأخذوا فيها فتاوى الفقهاء، فإن في هذا خلاصاً لهم ونجاةً من الظلم، فإن القاضي سيَحكم لهم إما بالبيع أوبالعِتْق أوبالتخفيف والإحسان إليهم؛ فإن لم بفعل بنوآدم ما حَكَم به، وهربت هذه البهائم منهم، فلا وِزْر عليها.فقال الملك للجماعة: ماذا ترون فيما قال وأشار? فقالوا: صواباً ورشاداً. ثم أشار غير صاحب العزيمة من آل بَهرام، فإنه قال: أرأيتم، إن استَباعتْ هذه البهائم وأجابتها بنوآدم إلى ذلك، مَن ذا الذي يزِن أثمانها? قال الفقيه: الملك.قال: من أين? قال من بيت مال المسلمين من الجِن.قال صاحب الرأي: ليس في بيت المال ما يفي بأثمان هذه البهائم، وخَصلةٌ أُخرى ان كثيراً من بني آدم لا يرغبون في بيعها، لشدة حاجتهم إليها واستغنائهم عن أثمانها، مثل الملوك والأشراف والأغنياء، وهذا أمر لا يتمّ، فلا تُتعِبوا أفكاركم في هذا.فقال الملك: فما الرأي الصواب عندك? قل لنا.قال: الصواب عندي أن يأمر الملك هذه البهائم والأنعام الأسيرة في أيدي بني آدم تُجمِع رأيها وتهرُب في ليلة واحدة، وتبعُد من ديار بني آدم، كما فعلت حُمُر الوحوش والغِزلان والوحوش والسباع وغيرهما، فإن بني آدم إذا أصبحوا ولم يجدوا ما يركبون ولا ما يحمل أثقالهم، امتنعوا عن طلبها لبعد المسافة ومَشقّة الطريق، فيكون هذا نجاة لها وخلاصاً من جور بني آدم. فعزم الملك على هذا الرأي، ثم قال لمن كان حاضراً: ماذا ترون فيما قال وأشار?



قال رئيس الحكماء من آل لُقمان: هذا عندي أمر لا يتمّ، فلا تُتعِبوا أنفسكم، فهوبعيد المرام، لأن أكثر هذه البهائم لا تكون بالليل إلاّ مُقيّدةً أومُغلّلة، والأبواب عليها مُغلقةٌ، فكيف يتسنّى لها الهرب في ليلة واحدة? قال صاحب العزيمة: يبعث الملك تلك الليلة قبائل الجن يفتحون لها الأبواب ويَحلّون عُقُلَها وأوثاقها، ويَخبُلون حرّاسها إلى أن تبعُد البهائم. واعلم أيها الملك بأن لك في هذا أجراً عظيماً، وقد محَضتُ لك النصيحة لما أدركني من الرحمة لها، وإن الله تعالى لما علم من الملك حُسن النيّة وصحة العزيمة فإنه يُعينه ويؤيِّده وينصره إذا شكر نعمته بمعاونة المظلومين وتخليص المكروبين، فإن في بعض كتب الأنبياء، عليهم السلام، مكتوباً: يقول الله عز وجل: أيها الملك إني لم أُسلِّطك لتجمع المال وتتمتع وتشتغل بالشهوات واللذات، ولكن لتردّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردُّها ولوكانت من كافرٍ.فعزم الملك على ما أشار به صاحب الرأي، ثم قال لمن حوله من الحضور: ماذا ترون فيما قال? قالوا: محضَ النصيحة وبذل المجهود.فصدقوا رأيه جميعاً غير حكيم من آل كَيوان فإنه قال: بصَّرك الله أيها الملك خَفيات الأُمور وكشف عن بصرك مُشكلات الأسباب والدهور، إن في هذه الأسباب والعمل خَطْباً جليلاً لا تُؤمَن غائلة عاقبته، ولا يُستَدرك إصلاح ما فات منه ولا ما فرط.فقال الملك: عرِّفنا يا حكيم ما الرأي، وما الذي يُخاف ويُحذر. بين لنا لنكون على علم وبصيرة.قال: نعم، أرأيت أيها الملك، إن تمّ ما أُشير به عليك من وجه نجاة هذه البهائم من أيدي بني آدم وهربها من أيديهم، أليس من الغذ يصبحون وقد رأوا حادثاً عظيماً من فرار هذه البهائم وهربها من ديارهم، فيعلمون يقيناً بأن ذلك ليس من فعل البهائم ولا من تدبير الإنس، بل لا يشكُّون بأن ذلك من فعل الجِنّ وحيلتهم? قال الملك: لا شك فيه.قال: أليس، بعد ذلك، كلما فكّر بنوآدم فيما فاتها من المنافع والمَرافِق بهربها منهم امتلأت حُزناً وغيظاً وغمّاً وأسفاً على ما فاتها، وحقدت على بني الجانّ عداوةً وبُغضاً، وأضمرت لهم حيلاً ومكايد، ويطلبونهم كل مطلب، ويرصُدونهم كل مَرصَدٍ، ويقع بنوالجان عند ذلك في شُغل وعداوة ووجَل كانوا في غنىً عنه. وقد قالت الحكماء: إن اللبيب العاقل هوالذي يُصلح بين الأعداء ولا يجلُب إلى نفسه عداوةً، ويَجُرّ المنافع إلى غيره ولا يضُرّ نفسه.قالت الجماعة: صدق الحكيم الفيلسوف الفاضل.ثم قال القائل من الحكماء: ما الذي يُخاف ويُحذَر من عداوة الإنس لبني الجان أيها الحكيم لينالوهمن المكاره، وقد علمتَ بأن الجان أرواحٌ خفيفة نارية تتحرّك عُلْواً طبعاً، وبنوآدم أجساد أرضيّةٌ ثقيلة تتحرّك بالطبيعة سُفلاً. ونحن نراهم ولا يروننا، ونسير فيهم ولا يُحسُّن بنا، ونحن نحيطهم وهم لا يَمَسُّوننا، فأي شيء يُخاف منهم علينا أيها الحكيم? فقال له الحكيم: هيهات! ذهب عنك عِظامُها وخفي عليك أجسامها، أما علمت أن بني آدم، وإن كانت لهم أجساد أرضية ثقيلة، فإن لهم أرواحاً فلكيّة ونفوساً ناطقة ملَكيّة، بها يفضُلون عليكم ويمتازون عنكم? واعلموا أن لكم فيما مضى من أخبار القرون الأُولى مُعتبراً ومُختَبراً، وفيما جرى بين بني آدم وبين الجانّ في الدهور السالفة دليلاً واضحاً.فقال الملك: أخبرنا أيها الحكيم كيف كان، وحدِّثنا بما جرى من الخطوب وكيف تمّ ذلك

( رسائل اخوان الصفا وخلان الوفا - مجموعة مؤلفين ) فصل في بيان علة اختلاف صور الحيوانات:



بيان ذلك أن الله، عز وجل، لما خلق آدم وأولاده عُراة بلا ريش على أبدانهم، ور وبر ولا صوف على جلودهم يَقيهم من الحر والبرد، وجعل أرزاقهم من ثمر الأشجار، ودثارَهم من أوراقها، وكانت الأشجار منصبةً في جوالهواء، جعل أيضاً قامتهم منتصبةً ليسهل عليهم تناول الثمر والورق منها، وهكذا جعل أرزاقنا من حشيش الأرض، جعل بنية أبداننا منحنيةً ليسهل علينا تناول العُشب من الأرض، بنية أبداننا منحنيةً ليسهل علينا تناول العُشب من الأرض، فلهذه العلة جعل صُوَرَهم منتصبةً وصُورنا منحنيةً، لا كما توهموا.

فقال الملك: ما تقولون في قول الله، عز وجل "لقد خلَقنا الإنسان في أحسن تقويم"? قال الزعيم: إن للكتب النبويّة تأويلات وتفسيرات غير ما يدُلّ عليه ظاهر ألفاظها، يعرفها العلماء الراسخون في العلم، فليسأل الملك أهل الذِّكْر.

قال الملك لحكيم الجن: ما معنى قوله: "في أحسن تقويم"? قال: في اليوم الذي خلق فيه آدم كانت الكواكب في أشرافها، وأوتاد البروج قائمةً، والزمان معتدلاً كثير الموادّ. وكانت متهيّئةً لقبول الصُّوَر، فجاءت بنيته في أحسن صورةٍ وأكمل هيئة.

قال الملك: إن لها معنىً غير ما ذُكر وتبين ذلك بقوله: "فعَدَلكَ في أي صورةٍ ما شاء ركَّبكَ" يعني لم يجعلك طويلاً دقيقاً، ولا قصيراً لزِيقاً، بل ما بين ذلك.

فقال زعيم البهائم: ونحن كذلك فعل بنا أيضاً، لم يجعلنا طِوالاً ولا دِقاقاً ولا قِصاراً ولا صغاراً، بل بين ذلك. فنحن وهم في هذه الصورة والفضيلة والكرامة بالسويّة.

فقال الإنسي لزعيم البهائم: من أين لكم اعتدال القامة واستواء البنية وتناسب الصورة، وقد نرى الجمل عظيم الجثة، طويل الرقبة، صغير الأُذنين، قصير الذنب، ونرى الفيل عظيم الخلقة، طويل النابين، واسع الأُذنين، صغير العيني، ونرى البقر والجاموس طويل الذنب، غليظ القرون ليس له أنياب من فوق؛ ونرى الكَبْشَ عظيم القرنين، كبير الألْية ليس له لحية، والتيس طويل اللحية ليس له ألْيةٌ، مكشوف العَورة، ونرى الأرنب صغير الجُثة، كبير الأُذنين، وعلى هذا المثال والقياس نجد الحيوانات والسِّباع والوحوش والطيور والهوامّ مضطربات البنية غير متناسبة الأعضاء.

فقال زعيم البهائم: هيهات! ذهب عليك، أيها الإنسيُّ، أحسنُها، وخفي عليك أحكمها. أما علمت أنك لمّا عِبتَ المصنوع فقد عِبت الصانع? أوَلا تَرى وتعلم بأن هذه كلَّها مصنوعات الباري الحكيم خلقها بِحكمته لعللٍ وأسباب وأغراضٍ لجرّ المنفعة إليها ودَفع المضرّة عنها، ولا يعلم ذلك إلاّ هووالراسخون في العلم? قال الإنسيّ: فخبّرنا أيها الزعيم، إذا كنت حكيم البهائم وخطيبها، ما العلة في طول رقبة الجمل? قال: ليكون مناسباً لطول قوائمه لينال الحشيش من الأرض، ويستعينَ به على النهوض بحمله، وليبلُغ مِشفرُه إلى سائر أطراف بدَنه فيحُكّها.

وأما خرطوم الفيل فعِوضٌ عن طول الرقبة، وكِبَر أُذنيه ليذُبَّ البقّ والذُّباب عن مآقي عينه وفمه، إذ كان فمه مفتوحاً إبداً لا يمكنه ضمّ شفتيه لخروج أنيابه منه، وأنيابه سلاحٌ له يمنع بها السباع عن نفسه.

وأما كبر أُذن الأرنب فهومن أجل أن تكون دِثاراً له ووِطاء وغِطاء في الشتاء والصيف، لأنه رقيق الجلد تَرِفُ البدن. وعلى هذا القياس نجد كلّ حيوان جعل الله، عز وجل، له من الأعضاء والمفاصل والأدوات بحسب حاجته إليه لجرّ المنفعة أودفع المضرة. وإلى هذا المعنى أشار موسى، عليه السلام، بقوله: "ربُّنا الذي أعطى كلّ شيء خَلْقَه ثم هدى".

وأما الذي ذكرت، أيها الإنسيّ، من حُسن الصورة وافتخرت به علينا، فليس فيه شيءٌ من الدَّلالة على ما زعمت بأنكم أربابٌ ونحن عبيد. فإذا كان حسن الصورة شيئاً مرغوباً فيه عند أبناء الجنس من الذكور الإناث ليدعوهم ذلك إلى الجماع والسِّفاد والنِّتاج والتناسل لبقاء النسل، فإننا لا نرغب في محاسن إناثنا، ولا إناثُنا في محاسن ذُكراننا، كما لا يرغب السودُ في محاسن البيض، ولا البيض في محاسن السود، وكما لا يرغب اللُّوّاط في محاسن الجواري، ولا الزُّناة في محاسن الغلمان، فلا فخر لكم علينا بمحاسن الصور أيها الإنسي.

( كتاب رسائل اخوان الصفا وخلان الوفا - مجموعة مؤلفين )











الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alrefaee.ahlamontada.com
 
في السيرة الفاضلة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منى الفخرانى :: الفئة الأولى :: المنتدى الأول-
انتقل الى: