الإمام أحمد بن عيسى المهاجر
الموضوع ( منقول من كتاب مختارات من كتابات شيخ الصحافة الحضرمية الاستاذ محمد بن هاشم جمع وتعليق السيد علي بن أنيس الكاف)
هو أحمد بن عيسى بن محمد بن علي العريضي بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن الأمام علي بن أبي طالب.
إمام عظيم الهمة بعيد النظر قوي الإرادة تستنتج ذلك من تجشمه المشاق في هجرته من العراق الخصبة والميسرة فيها أسباب الترف ونعومة العيش والتي بها ذويه وعشيرته المحتلة هناك مكانة سامية في السيادة والإجلال لدى الخاصة والعامة، فغادرها تاركاً كل ذلك وراءه مرتحلاً بعائلته وأتباعه الذين ينيفون على السبعين في وقت تتعسر فيه الرحلات فلا بواخر ولا سكك حديدية ولا سيارات ولا هناك قوافل إلا الجمال التي تذرع القفار المترامية الأطراف بخطواتها المتئدة سائرة بركابها الهوينا حتى تصل بهم إلى الشاؤ المنشود .
فهجرة هذا الإمام على هذا الوجه إلى حضرموت الشاسعة القاحلة والتي ليس له بها أصدقاء ولا عشيرة. وسكن بها مع علمه بما هو عليه حال أهلها من المذهب الأباضي الذي لا يتناسب فروعه مع المذهب السني الذي يتمذهب به هذا الإمام كل ذلك دليل مقنع على عظيم همته وبعد نظره وقوة إرادته .
ولد أحمد بن عيسى في مدينة البصرة عام 260هـ ونشأ في حجر السيادة والعلم والدين، وانطلق في عنفوان شبابه متوغلاً في ارتياد مناهل العلم ومنابع العرفان فأخذ الفقه والتفسير والحديث عن آبائه وغيرهم من علماء البصرة وفطاحلة العراق وأخذ من التصوف العملي وتهذيب النفس نصيباً وافراً يؤهله للحاق برجاله، حتى أصبح علماً من أعلام الفضل يشار إليه بالبنان، وما لبث أن تولى رئاسة الأسرة العريضية ذات القدر والاعتبار في البصرة . ثم أسندت إليه المشيخة هناك وهو إذ ذاك لم يتجاوز الخمسين سنة، وما ذلك إلا لما شوهد فيه من النبوغ في النواحي الثقافية والنسكية والاجتماعية .
في ذلك العصر كان العراق ولاسيما مدينتي – الكوفة والبصرة – ميداناً للمماحكات المذهبية والمجادلات الكلامية، وأتوناً هائلاً تشتعل فيه نيران الثورات والفتن الدينية والسياسية وأصبحت الفوضوية الاعتقادية تصول وتجول في روابي تلك البقاع ووهادها . وأصبح العاقل يخاف دينياً على نفسه وعلى ذويه من التسمم بما يتشبع به الجو من تلك العقائد الزائغة ويخاف سياسياً من تلك الفتن المظلمة التي سفكت فيها دماء الجم الغفير من العلماء والصوفية وغيرهم من الأبرياء .
وفي نفس الوقت استولى الزنوج على البصرة فسفكوا الدماء ونهبوا الأموال وهتكوا الأعراض، وأعقبهم القرامطة الذين لم تكن فظائعهم بأقل من فظائع الزنوج هولاً وويلاً .
لم ير الإمام أحمد بن عيسى لنفسه ولا لذويه خيراً في البقاء بالعراق على هذه الويلات فهاجر سنة 317هـ كما هاجر كثيرون غيره من رجال الفضل فراراً بأنفسهم ودينهم، واستصحب معه عائلته وفيها ولده عبيد الله وحفيده بصري بن عبيد الله واستصحب من أبناء عشيرته جد السادة بني الأهدل وجد السادة بني قديم باليمن وأخذ معه من أتباعه جعفر ومخدماً وشوية ومختاراً وترك في البصرة من أولاده محمداً وعلياً والحسن ولكل منهم عقب بها .
اتجه نحو الحجاز مع إحدى القوافل قاصداً طيبة المنورة حيث أقام بها متنصتاً ما يشاع ويرجف به عن وشك قدوم القرامطة إلى مكة المقدسة، ولهذا لم يذهب لأداء نسك الحج بذلك العام الذي هجم فيه القرامطة على الحرم المكي في اليوم الثاني من ذي الحجة سنة 317هـ فاستباحوا مكة وفعلوا فيها الأفاعيل الفظيعة .
وأقام بالمدينة متكدراً ضايق الصدر من تلك الحوادث ومفكراً في اختيار البقعة التي تكون ذريته فيها بمنجاة من طغيان الفتن وانفجار براكينها . وفي سنة 318هـ قصد مكة وعائلته حتى إذا حجوا وأتموا مناسكهم رحل بهم نحو اليمن مع إحدى القوافل وأخذ يتنقل في مدنه وقراه وأوديته تتقدمه أخباره وبشائره ويتلقاه الناس بالحفاوة والإجلال، حتى وصل إلى حضرموت فوجدها على وفق مرامه من حيث الهدوء وقلة السكان وبعده عن الأطماع فارتاحت نفسه إلى استيطانها .
استقر أولاً بقرية الجبيل ب0000 دوعن، ثم انتقل منها إلى الهجرين فأقام بها سنوات واشترى له بها عقاراً ونخيلاً ووهبها فيما بعد لتابعه شوية عندما ارتحل منها إلى قارة بني جشير فأقام بها برهة فلم تطب له فغادرها إلى الحسيسة حيث توطن بها واشترى بها أطياناً واسعة تسمى صوحاً وهي الأرض التي بين الحسيسة وبور .
وقد أقبل عليه أهالي حضرموت وحنت إليه أرواحهم لعمله واستقامته وأخلاقه وكرمه الباذخ ولين جانبه وعظاته وإرشاداته ولم يزل كعبة القاصدين ومنهل الواردين إلى أن توفي ببلدة الحسيسة سنة 345هـ وقبره في رأس هضبة واقع في نحو ثلث الجبل الكائن بالحسيسة وعلى ضريحه قبة يصعد إليها الزائرون في درج معبدة متسعة تبلغ نحو الثمانين .