السهرورديّ... الإشراقيّ البارع الذي قتلته أفكاره
د. عمار علي حسن
إنه أحد كبار فلاسفة «الإشراق» في تاريخ الفكر الإسلامي، دعا إلى الوصول إلى المعرفة عن طريق الذوق والكشف الروحاني. اطلع على الفلسفات التي خلفها كهنة مصر وفلاسفة الإغريق وبراهمة الهند وغيرها، فانتهى إلى المطالبة بالتأمل الروحاني للوجود، والتخلص من الوقوع التام تحت طائلة المصادر، والاعتماد على التفكير الذاتي والإبحار في النفس، جنباً إلى جنب مع توسل البرهان العقلي في الوصول إلى الحقيقة.
إنه «أبو الفتوح» يحيى بن حبش بن أميرك، ويلقب بـ «شهاب الدين» ويوصف «بالحكيم»، و»المؤيد بالملكوت» ولقبه تلامذته بـ»الشهيد»، واشتهر بالشيخ المقتول تمييزاً له عن صوفيين آخرين هما: شهاب الدين أبو حفص عمر السهروردي البغدادي (632هـ)، ومؤلف كتاب «عوارف المعارف» في التصوف، وصاحب الطريقة الصوفية المنسوبة إليه وهي الطريقة السهروردية، أما الآخر فهو «أبو النجيب السهروردي» (ت:563هـ).
ولد السهروردي عام 545هـ على الأرجح، في بلدة سهرود بزنجان في أذربيجان، حيث تلقى مزيجاً من الثقافات الإسلامية وغيرها، يعتمد بعضها على إعمال العقل، وبعضها على التذوق. وكان السهروردي كثير الأسفار، وفي ترحاله التقى علماء وحكماء ومتصوفة كثيرين. وفي مطارحاته نقل عنه تلميذه الشهروري قوله عن هذه المرحلة من عمره: «قد بلغ سني إلى قرب 30 سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارك مطلع على العلوم»، ثم قال: «سافر في صغره في طلب العلم والحكمة إلى مراغي، واشتغل بالحكمة علي مجد الدين الجيلي، ثم سافر إلى نواحٍ متعددة، وصاحب الصوفية، واستفاد منهم، وحصل لنفسه ملكة الاستقلال بالفكر والانفراد ثم اشتغل بنفسه حتى وصل إلى غايات مقامات الحكماء ونهايات مكاشفات الأولياء».
انتهى السفر بالسهروردي إلى الشام، حيث أقام في مدينة حلب ابتداء من سنة 579 هـ، وكانت آنذاك تحت إمرة الملك الظاهر ابن صلاح الدين. ونزل في المدرسة «الحلوية»، فباحث الفقهاء وناظر العلماء، وأدهشهم ببيانه وحجته، وظل في المدينة حتى وافته المنية، وفيها كتب أهم أعماله، التي كادت أن تفقد لولا إخلاص تلامذته له، الذين تتبعوا كل ما ينتجه حتى صنفوا منه نحو 49 كتاباً ما بين منثور ومنظوم، أبرزها: «حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات، اللمحات في الحقائق، الألواح العمادية، المشارع والمطارحات، المناجاة، مقامات الصوفية ومعاني مصطلحاتهم، التعرّف للتصوّف، كشف الغطا لإخوان الصفا، رسالة المعراج، اعتقاد الحكماء، صفير سيمورغ، كتاب اللمحات، كتاب التلويحات، كتاب المقاومات، كتاب المطارحات»، وغير ذلك من عشرات الكتب الثانوية والرسائل.
الفلسفة الإشراقية
أوضح قطب الدين الشيرازي في مقدمة كتاب «حكمة الإشراق للسهروردي» أن الفلسفة الإشراقية هي الحكمة المؤسسة على الإشراق الذي هو الكشف، أو حكمة المشارقة الذين من أهل فارس. ويرى الإشراقيون أن المعرفة لا تقوم على تجريد الصور، كما يقرر المشّاؤون، وهم أتباع فلسفة أرسطو، بل تقوم على الحدس الذي يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية صعوداً كان أو نزولاً.
لكن السهروردي استعمل الإشراق استعمالاً خاصاً، إذ ذهب إلى أن «الله نور الأنوار»، ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادي والروحي، وأن «النور الإبداعي الأول» فاض عن «نور الأنوار. وتصدر عن النور الإبداعي الأول أنوار طولية سماها «القواهر العالية»، وتصدر عن هذه القواهر أنوار عرضية سماها «أرباب الأنواع»، تدير شؤون العالم الحسي. وابتدع السهروردي عالماً أوسط بين العالمين العقلي «نور الأنوار» والعالم المادي، سماه «عالم البرزخ» و»عالم المُثُل». وميّز بين نوعين من الحكمة هما: الحكمة البحثية: تعتمد على التحليل والتركيب والاستدلال البرهاني، وحكمة الفلاسفة. والحكمة الذوقية: ثمرة مجاهدات روحية، يحياها الإنسان لكنه لا يستطيع التعبير عنها، وهي حكمة الإشراقيين.
ولا يرى السهروردي أي تعارض بين الحكمتين، فالإشراقي الحقيقي يتقن الحكمة البحثية، وينفذ في الوقت نفسه إلى أسرار الحكمة الذوقية، لذا يعتبر أن الفكر الإنساني غير قادر وحده على امتلاك المعرفة التامة، ولا بد من أن يستعين بالتجربة الداخلية والذوق الباطني، إضافة إلى أن الاختبار الروحي لا يزدهر ويثمر إلا إذا تأسس على العلم والفلسفة.
وعن فلسفة السهروردي قال حسين مروَّة: «النظريات الإشراقية عند السهروردي المقتول نموذج حيٌّ للتداخل بين الفلسفة العقلانية (المشائية في شكل خاص) وبين فلسفة التصوف، إضافة إلى مصادر الفكر الإشراقي المتعددة (الزرادشتية، الفيثاغورية، الأفلاطونية، والهرمسية) في إطار الإسلام العام، إن من النصوص الأصلية التي يبدو أن السهروردي كان مستوعباً إياها بوعي جيد موضوعه «العالمية» التي يقوم عليها تاريخ الفكر الفلسفي، بمختلف أشكاله وتجلِّياته، في مختلف بيئاته وأزمنته. وإنه بهذا الاستيعاب وهذا الوعي بنى مذهبه التصوفي الإشراقي. لذلك فإن «الحركة الإشراقية، مذ ظهرت في إطار التصوف الإسلامي وجدت في السهروردي المقتول منظماً لنظريتها المتكاملة».
ولم يكتف السهروردي في بث فلسفته الإشراقية على النثر، بل قدمها أيضاً في نظم شعري صاف، إذ نظم في العشق الإلهي أبياتاً تقول:
أبداً تحـنّ إليكـمُ الأرواحُ
ووصالكمْ رَيحانُها والـراحُ
وقلوبُ أهل وِدادكمْ تشتاقكمْ
وإلى لذيـذ لقائكـمْ ترتـاحُ
وارحمتا للعاشقين! تكلّفـوا
سترَ المحبّة، والهوى فضّاحُ
بالسرّ إن باحوا تباحُ دماؤهم
وكذا دماءُ العاشقين تُبـاحُ
ونظم قصيدة أخرى على المنوال ذاته، جاء فيها:
كُلّ يَومٍ يَروعُني مِنكَ عَتب أَيّ ذَنبٍ جَناهُ فيكَ المُحبُّ
إِن تَكُن أَحدَثت وشاتي حَديث بِسلوّي هَواك حَشاي كذبُ
وَضُلوعي لَها هَواك ضُلوعا بَل وَقَلبي لَها المَحبّة قَلبُ
مُتّ مِن جَورِ سادَة قَد أَحَلّوا قَتلَ مَن لا لهُ سِوى العشقِ ذَنبُ
صارَ لي في هَواهُ رُتبة ما حازَها في هَواهم قَطُّ صَبُّ
عَبراتٌ تَهمي وَجِسمٌ نَحيلٌ وَفُؤادٌ عَلى التَّقاطعِ يَصبو
وَضُلوعٌ مِنَ الجَوى واهِيات وَدُموعٌ بِذائِبِ القَلبِ سكبُ
يا سَميري وَلَم أَقُل يا سَميري قَط إِلّا أَجابَ عِشق وَحُبُّ
هَل لِداء الهَوى سَمعت دَواء هَل لِمَيت الغَرام في الحُبّ طبُّ
بَينَ جِسمي وَالسَّقم سلم وَبَينَ الجفنِ وَالنَّوم عِندَما صَدّ حَربُ
مَن مُجيري مِن ظالِم وَلي القَلب لَهُ اليَوم فيهِ قَتلٌ وَنَهبُ
جاءَ لِلنّاسِ فتنة بِخدودٍ نارها في قُلوبنا لَيسَ تَخبو
إِنَّ عَيني لِشمس وَجهِكَ شَرق ما لِدَمعي سِوى الجفن غَربُ
وفي إحدى قصائده بيتاً يشبه ما سبق أن نظمته رابعة العدوية في العشق الإلهي:
وَلَولاكُم ما عَرَفنا الهَوى
وَلَولا الهَوى ما عَرفناكُم
وهذا العشق أزلي، مستقر في الأعماق، في الحشايا والخلايا والضلوع، إنه عشق مرتبط بالوجود، ومن دونه العدم والصمت واللاشيء:
أَقسَمتُ بِصَفو حُبِّكُم في القدم ما زَلَّ إلى غَيرِ هَواكُم قَدَمي
قَد أَمزج حُبّكُم بِلَحمي وَدَمي قَطعي صلتي وَفي وُجودي عَدَمي
وثمة قصيدة أخرى عن النور الغامر الذي يملأ القلب بحب الخالق الأعظم، صورها في بساطة عبر التجسيد والتمثيل:
لِأَنوارِ نورِ اللَه في القَلب أَنوارُ وَللسرّ في سرّ المُحبّين أَسرارُ
وَلمّا حَضَرنا للشّرابِ بِمجلسٍ وَخفّ مِن عالم الغَيب أَسرارُ
وَدارَت عَلَينا لِلمَعارف قَهوة يَطوفُ بِها مِن جَوهرِ العَقلِ خمارُ
فَلَمّا شَرِبناها بإِقراه فمها أَضاءَ لَنا مِنها شُموس وَأَقمارُ
وَكاشَفنا حَتّى رَأَيناهُ جَهرَةً بِأَبصار صِدقٍ لا يُواريهِ أَستارُ
وَخالَفنا في سكرِنا عِندَ نَحونا قَديمٌ عَليمٌ دائمُ العَفوِ جَبّارُ
سَجَدنا سُجوداً حينَ قالَ تَمَتّعوا بِرُؤيَتنا إِنّي أَنا لَكُم جارُ
ونور الأنوار عند السهروردي هو «نور محيط لأنه يحيط بجميع الأنوار لشدة ظهوره وكمال إشراقه ونفوذه فيها بلطفه، وهو قيوم لقيام الجميع به، وهو مقدس لأنه منزه عن جميع صفات النقص، وهو الأعظم الأعلى إذ لا أعظم ولا أعلى منه بين الأنوار جميعاً، وهو قهار لأنه يقهر ما دونه من الأنوار؛ ذلك لشدة إشراقه وقوة لمعانه، وهو غني مطلق إذ ليس وراءه شيء يفتقر إليه ولا دونه شيء يستغني عنه، وهو قبل هذا كله وبعد هذا كله واحد»، هكذا ينتهي السهروردي إلى أن نور الأنوار يحكم طبيعته وحقيقته وأحديته إنما هو واجب الوجود بنفسه، وما عداه واجب به ومفتقر إليه ومستمد وجوده منه».
وهكذا يكون الوجود بأسره عند السهروردي هو نور تتفاوت درجاته شدة ؛ ذلك لأن تجليات نور الأنوار تظهر في كل مكان فتشهد بالتالي جميع الأشياء بحضوره. وهنا يقول المستشرق الألماني كار بروكلمان في موسوعته عن تاريخ العرب: إن آراء السهروردي تلك ذات طبيعة غنوصية عرفانية قائمة على أساس الأفلاطونية الجديدة والفيثاغورية الجديدة التي تقول إن ثمة نوراً روحياً يتخلَّل الكون كإشراق لدنيّ هو جوهر الأشياء جميعاً.
انطلق السهروردي من اعتقاد في أن النور مبدأ الوجود الوحيد، وأصل الأشياء وأن الله هو نور الأنوار، وأن الظلمة ليست سوى انحدار الوجود عن المبدأ الخالد وهو النور، وكلما انحدر هذا الوجود اتجه نحو الظلمة، لذا كان الهدف الأسمى، أو قيمة الإنسان العليا أن يترقى صعوداً كي يتلاشى في مصدر الأنوار ويفنى تماماً. وكانت قيمة هذا الاتجاه أنه يفارق الثنائيات التقليدية للفلسفة الشرقية التي تقوم على ثنائيات متقابلة مثل النور/ والظلمة، الخير/ والشر، الجنة/ والنار، العقاب/ والثواب.
كان السهروردي أحياناً يستبدل بالإشراق والمشاهدة فِعْلَي «العشق» و»القهر»، أي: «العشق، به ينتظم الله الوجود صعوداً، وبالقهر ينتظمه نزولاً، والنفوس منطوية في قهر نورية العقول.
وكان من عادة السهروردي أن يفصل نظرياته ويشرحها عبر نصوص تبسيطية انطوت عليها رسائله الشهيرة، ومن بينها رسالة جناح جبريل التي يقول فيها:
«تسللت من دار النساء، وتفلتُّ من بعض أحزمة الأطفال ولفائفهم عند المساء، وكنت أحمل مشعلاً، فتوجهت إلى حراس قصر أمي. وعند بزوغ الفجر نازعتْني الرغبةُ إلى سرداب أبي، وهو ذو بابين، فدخلت في أحدهما، فعاينت عشرة شيوخ صُباح. من أين جاء هؤلاء السادة؟ قال أقربُهم: «إننا قوم متجرِّدون أتينا من حيث لا مكان» فلم أفهم كلامه، قلت: «كيف تشتغلون؟» قال: «بالخياطة. واعلمْ أنه ليس لنا زوج؛ لكن لكلٍّ منا ولدٌ ورحى تدور ولي أولادٌ كثر يعجز أمهر الحاسبين عن إحصائهم. ففي كل لحظة يتكوَّن لي عددٌ وافر منهم، فأرسل كلاً إلى رحاه». فقلت للشيخ: «من أين جاءك هذا الإخصاب؟» قال: «اعلم أني لي جارية حبشية لا أنظر إليها أبداً، تجلس بين الأرحاء وهي تحدِّق في رحاها الخاصة، ورحاها تدور؛ وكلما اتَّجهتْ نحوي حدقةُ عين الصبية السوداء تكوَّن في حشاها ولدٌ منِّي، من دون أن تبدر عني حركة أو يصيبني تغيُّر». استوضحتُه كيفية هذا النظام. قال: «اعلم أن لي كلمات هي جزء من كلمته النورانية، بعضُها يقع فوق بعض، حتى اكتمال العدد».
قصائد أخرى
في إحدى قصائده يبث السهروردي لواعج حزنه على حال الناس ومسلكهم، حيث تردوا في النفاق، وخالف باطنهم ظاهرهم، وتحول الدين لديهم إلى طقوس وقشور:
تَوَلَّت بِهجَةُ الدُّنيا فَكُلُّ جَديدها خَلقُ
وَخانَ النّاسَ كُلَّهُم فَما أَدري بِمَن أَثقُ
رَأَيتُ مَعالِمَ الخَيراتِ سدَّت دونَها الطُّرقُ
فَلا حَسبٌ وَلا نَسَب وَلا دين وَلا خلقُ
فَلَست مُصَدّق الأَقوامِ في شَيءٍ وَلَو صَدَقوا
وقد كان السهروردي ضحية عصره، فالقرن السادس الهجري لم يكن زمن تسامح، على النقيض من القرون التي خلت، بل كان عصر صراعات سياسية ومذهبية، سيطر فيه الأشاعرة، وتراخى الفكر المعتزلي، وساد فيه أهل الرواية على أهل الدراية، وأتباع المنقول على أصحاب المعقول، وحمل الفقهاء بشدة على الفلاسفة، وجاءت الأوضاع السياسية لتغذي هذا التعصب، فالعالم الإسلامي كان موزّعاً بين الخلافة العباسية السنية، والخلافة الفاطمية الشيعية، وكان البويهيون الشيعة قد هيمنوا على مقاليد الأمور في إيران وكردستان والعراق (334 – 447 هـ)، وأبقوا على الخلافة العباسية في الظاهر بينما تحكموا في مقاليدها في الباطن. فلما اشتد ساعد السلاجقة الأتراك المعتنقين للمذهب السني، سارع العباسيون إلى الاستعانة بهم في مواجهة البويهيين. وكان من الطبيعي أن يبحث السلاجقة عن أيديولوجية لمواجهة تلك التي كانت تشكل إطاراً لأعدائهم، بذلك برزت أهمية الخط الأشعري.
الطريق إلى النهاية
في ظل هذه الأجواء جاء السهروردي إلى حلب ليجد أمامه الزنكيين، أتباع السلاجقة، يتحكمون في الأمر، بينما ضغط آخر سلاطينهم نور الدين زنكي على واليه في مصر صلاح الدين الأيوبي لإلغاء الخلافة الفاطمية، واتخاذ المذهب الشافعي بتوجهه الأشعري مذهباً رسمياً للدولة.
لهذا نظر الفقهاء والحكام بعين الريبة إلى أفكار السهروردي وأحالوها إلى الدعاوى الباطنية. وما زاد الطين بلة أن السهروردي كان مأخذواً بفورة الشباب، معتداً بذاته، واثقاً من علمه، شجاعاً في طرح أفكاره إلى حد التهور، فتحدى الفقهاء في سائر المذاهب، وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلّمهم كلام من هو أعلى قدراً منهم، فتعصّبوا عليه، لا سيما أن طموحه كان بلا حدود إذ يقول: «لا بدَّ أن أملك الأرض».
وأشار الشيخ سديد بن رقيقة إلى هذا الأمر فقال عن السهروردي: «كان يتردد علي، وبيننا صداقة، وكان الشيخ فخر الدين يقول لنا: ما أذكى هذا الشاب وأفصحه، ولم أجد أحداً مثله في زماني، إلا أني أخشى عليه، لكثرة تهوّره واستهتاره وقلة تحفّظه، أن يكون ذلك سبباً لتلفه».
وقال فخر الدين المارديني نفسه في هذا الشأن: «لما جاء شـهاب الدين السهروردي إلى حلب، وناظر بها الفقهـاء، ولم يجاره أحـد، فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحَسُن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكيناً عنده، مختصاً به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هـذا فإنه يفسد اعتقاد الملك، كذلك إن أُطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك».
وكان من جملة ما دار في المناظرة بين الفقهاء والسهروردي ما يلي:
- الفقهاء: أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبياً. وهذا مستحيل.
ـ السهروردي: ما حدا لقدرته؟! أليس القادر إذا أراد شيئاً لا يمتنع عليه؟
- الفقهاء: بلى.
ـ السهروردي : فالله قادر على كل شيء.
- الفقهاء: إلا على خلق نبي فإنه مستحيل.
- السهروردي: فهل يستحيل مطلقاً أم لا؟!
- الفقهاء: كفرت!
وتم هذا الاستدراج للسهروردي فيما كان صلاح الدين الأيوبي في حاجة ماسة إلى توحد عناصر دولته مترامية الأطراف في مواجهة أعدائها من الفرنجة والسلاجقة وغيرهما، بينما كان فيه الفقهاء يزدادون ضيقا من السهروردي، فزادوا في اتهامهم له، ودسوا ضده عند الملك الظاهر، فاستدعاه وعقد له مجلساً من الفقهاء والمتكلمين يباحثونه ويناظرونه، فإذا هو يَظهرُ عليهم ويُظهرُ فضله وعلمه وقوة حججه أمام الملك، فلم يكن من الملك إلا أن زاد إقباله عليه وإكباره له وإعجابه به فاشتد ضيق الفقهاء، فكتبوا إلى صلاح الدين نفسه يحذرونه من خطر السهروردي على عقائد الناس وأيديولوجية الدولة التي تقف على حواف الخطر. ويقال إن صلاح الدين أرسل إلى ولده الظاهر بحلب كتاباً بخط القاضي الفاضل يقول فيه: «إن هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أنه يُطلَق، ولا يبقى بوجه من الوجوه». واستفتى الظاهر فيه أمر السهروردي فقهاء حلب فأفتوا بقتله.
وقد ملك العجب المؤرخين والمفكرين مما أقدم عليه صلاح الدين الأيوبي، الذي كان معروفاً باعتداله وتسامحه إلى حد مصالحته لفرقة الحشاشين التي كان علماء السنة يرون في أفكارها الزندقة بعينها. ويفسر بروكلمان الأمر بقوله: «الواقع أن صلاح الدين لم يستشعر الحاجة إلى إقامة ديوان لامتحان الزنادقة إلا مرة في حلب. وتفصيل الأمر أن مهاجراً فارسياً من آسيا الصغرى يُدعى السهروردي استقر في حلب، وكانت له آراء غنوصية... ما لبثت أن أثارت شكوك علماء السُّنة، فزعموا أنه يمثل عقيدة القرامطة المُعادين للدولة. وهكذا لم يكن في وسع صلاح الدين، رغم اعتداله، إلا أن وافق على حكم الموت الذي أصدره الفقهاء القضاة على الملحد عام 1191 م».
واختلف المؤرخون والكتاب في ذكر الطريقة التي تم بها تنفيذ الحكم. فثمة من ذكر أنه قد قتل بتجويعه، وثمة من قال بالسيف، وقيل إنه أُحرق، أو خنق بوتر. وأورد ابن أبي أصبيعة رواية متماسكة قال فيها: «لما بلغ الشهاب ذلك، وأيقن أنه يُقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يُترك في مكان منفرد، ويُمنع من الطعام والشراب، إلى أن يلقى الله تعالى. ففُعل به ذلك، وكان في أواخر سنة 586 هـ في قلعة حلب، وكان عمره نحو 36 عاماً».