1. الجنيد... طاووس العلماء وسيّد الطائفة العاشقة
د. عمار علي حسن
لم يمر الجنيد مروراً عابراً في طريق التصوف الإسلامي، بل ترك علامة على حياته ووجوده، حملها تلاميذه الذين يُعرفون بـ{الجنيدية}، وحواها أسلوبه الذي جعل ابن تيمية يصفه بأنه {واحد من أهم المتصوفين المعتدلين}، وضمتها أضابير الكتب الكثيرة التي تسطرت صفحاتها بسير الزاهدين، ومنهم الشيخ الجنيد، الذي كان يقول دوماً: {الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد}. والجنيد، كما قيل عنه، كان {شيخ وقته، ونسيج وحده}.
إنه أبو القاسم الجنيد بن محمد الخراز القواريري، من أعلام التصوف وربما لدى جمهرة من المتصوفين، هو رائد حركة التصوف برمتها. يعود مسقط رأسه إلى نهاوند في همدان(مدينة آذرية)، أما مولده ومنشأه فكانا في بغداد. صحب جماعة من المشايخ، واشتهر بصحبة خاله السري، والحارث المحاسبي. درس الجنيد الفقه على أبي ثور أحد تلامذة الإمام الشافعي، وكان يفتي في حلقته بحضرته، وهو ابن عشرين سنة. والجنيد هو ابن أخت القطب الصوفي المشهور السري السقطي.
تعلم الجنيد وتذوّق التصوّف من خاله، فها هو يقول: {كنت بين يدي سري ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر؛ فقال لي: {يا غلام، ما الشكر{ فقلت: {الشكر ألا تعصي الله بنعمه}. فقال لي: {أخشى أن يكون حظك من الله لسانك!{ قال الجنيد: {فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السري}.
وقال أيضاً: قال لي خالي سري السقطي: تكلم على الناس. وكان في قلبي حشمة من ذلك، فإني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام، رسول الله ـ وكانت ليلة جمعة ـ فقال لي: {تكلم على الناس!}. فانتبهت، وأتيت باب سري قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: {لم تصدقنا حتى قيل لك!}. فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلم، فوقف عليّ غلام نصراني متنكر وقال: {أيها الشيخ! ما معنى قوله : اتقوا فراسة المؤمن. فإنه ينظر بنور الله فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: {أسلم! فقد حان وقت إسلامك، {فأسلم}.
تصوّف لا يخالف الشرع
حجّ الجنيد ثلاثين مرة، تقرباً إلى الله، وكانت له في الحج أحوال العاشقين، لكنه لم يخرج عن حدود ما يفرضه الشرع في أداء تلك الفريضة، فالجنيد كان يؤمن بالجمع بين الحقيقة والشريعة، ولا يرى أي فصل بينهما، بل إنه اشترط على نور الحقيقة أن يكون موصولاً بنور الشرع الإلهي.
وكان الجنيد يقول لمريديه دوماً: {من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا ( قاصداً التصوف) مقيد بالكتاب والسنة}. وكان يقول أيضاً: {كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته، ولزم طريقه، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه}.
ولم يكن الجنيد يستنكف أبداً أن يظهر تواضعه وزهده بين من عرفوا حسبه ونسبه، بل إنه حرص على كسر الكبر في نفسه، وتطويعها لتخضع للخالق العظيم. وقد أبدى أحد من حوله ذات يوم عجبه من الجنيد حين رآه يأخذ في يده سبحة، على رغم نسبه، فقال لمن تعجب منه: {طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه}. إذ كان يعتبر السبحة أحد طرق الوصول إلى الوجد.
وقارن الجنيد بين حالة الحضور التي طالبنا بها الأنبياء والمشاهدة التي يقول بها الأولياء، وكان يفضّل الصحو على حالة السكر لدى المتصوفة. أما في علم الكلام فهو يسلم بأن معرفة الله إنما تكون عن طريق النظر.
الفناء بطريقة مختلفة
من أهم القضايا التي عني بها الجنيد {الفناء}، لكن رؤيته هنا تختلف عن تلك التي نجدها لدى الحلاج والبسطامي. فالجنيد لم يكن يذهب إلى تبني الحلول والاتحاد في قوله بالفناء، إنما كان حريصاً على أن يبقى الصوفي واعياً صاحياً مستيقظاً، ويرفض الشطح، ويقصر الفناء على توحيد إرادة العبد مع إرادة الخالق. ولهذا كان ابن تيمية، المعروف بصرامته في الالتزام بقواعد الشرع الفقهية، يستشهد أحياناً بأقوال الجنيد عن الفناء في معرض رده على من يؤمنون بالحلول والاتحاد.
والفناء الذي كان يتحدث عنه الجنيد ويتبناه هو نهاية التوحيد الحقيقي، فعندما يشعر العبد بفناء إرادته وانقضائها أمام إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته، يصبح العبد شبحاً بين يدي الخالق العظيم، خاضعاً لقدرته، مستسلماً لحكمه، ممتثلاً لتدبيره. وهنا يذهب حسه عن محسوسه، وقد عرف المتصوفة هذا النوع من الفناء في ما بعد بـ{الفناء عن السوي{ أو {الفناء عن الأغيار}. وهو مسلك محمود لدى الفقهاء ودارسي الشرع، على حد سواء.
وهنا يقول الدكتور محمد السيد الجليند في كتابه {من قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة{ إن فناء من هذا القبيل يدل على أن {صاحبه لم ير في فنائه إلا إرادة الله وقضائه ومشيئته الكونية. أما إرادته الدينية وقضاؤه الديني، ومشيئته الدينية، فقد غابت عنه، حال فنائه. ومعلوم أننا لم نطالب بالوقوف على حقائق هذه الصفات الكونية، ولا العمل بمقتضاها، ولا العلم بها، لأنها أمر غيبي قد استأثر الله بعلمها وحجبه عن أصفيائه ورسله، وقد طلب الشرع منا أن نؤمن بها فقط، دون العمل بمقتضاها. أما الإرادة الدينية والقضاء الديني، فإن الله تعالى قد أمرنا أن نتعبد بهما، ونعمل بمقتضاهما، ويجب علينا أيضاً العلم بهما، ولذلك فإن الرسل لم يأمرونا بالقضاء الكوني، وإنما أمرونا بتنفيذ ما قضاه الله ديناً، وما أراده شرعاً، وهذا ما قد جاءت به الأوامر والنواهي التشريعية، وفصلته السنة}.
وما سبق يضع يده على نقطة فاصلة في مسار التصوف كله ومصيره، فبعض المتصوفة نقل مجال اهتمامه من النطاق المقدور عليه، والذي بالإمكان التفكير والاجتهاد فيه، والقطع فيه برأي أو دليل، إلى ما لا يمكن للإنسان مهما حاول أن يصل فيه إلى شيء ذي بال، إلا إذا أراد الله. ولهذا كثر كلام المتصوفة عن الكشف والإلهام والحدس والمعرفة اللدنية، ليحدثوا الناس عما لا يمكن لهم أن يدركوا جوهره خالصاً، ولا تفاصيله كاملة، والتي لا يمكن أن يتهادى إلا لعبد نوراني، يكون الله عينه التي يرى بها، وأذنه التي يسمع بها، ويده التي يبطش بها، كما جاء في الحديث القدسي.
ولم يكن الجنيد من بين الذين يغالون في رؤية الإنسان بصورة أكبر مما هو عليها كمخلوق ضعيف، يستمد أي قوة فيه من خالقه. وقد اعتمد الجنيد في مذهبه على دقائق التوحيد وأسراره، حتى كان الناس ينقولون عنه عبارته الشهيرة: {التوحيد إفراد القديم عن الحدث}، وهو تعريف يرسم لنا معالم مذهب الرجل، فليس توحيده حلولاً، ولا اتحاداً، ولكنه تمييز واضح بين الخالق والمخلوق. وقد نص الجنيد في كثير من أقواله على أن الخالق مباين لخلقه، عليّ عليهم غير حال في شيء من مخلوقاته. وكان مذهبه في ذلك يمثل تصوف الفقهاء في عصره، لأنه يعتمد في منهجه ـ كما يرى ذلك كثيرون ومنهم الدكتور الجليند ـ على الكتاب والسنة.
فعل يطابق القول
على هذه الأرضية تأتي رؤية الجنيد للتصوف، أو تتهادى تجربته الروحية، وكذلك ممارساته العملية، التي تدل عليها شواهد عدة، منها تلك الواقعة التي رواها عبد الله المكانسي، قائلاً: كنت عند الجنيد، فأتت امرأة، وقالت: ادع الله تعالى، فإن ابناً لي ضاع، فقال: اذهبي واصبري. فمضت ثم عادت، ففعلت مثل ذلك مرات، والجنيد لا يكثر لها في القول عما قال. فقالت له: عيل صبري. ولم يبق لي طاقة، فادع لي. فقال الجنيد: إن كان كما قلت، فاذهبي فقد رجع ابنك. ففعلت ثم عادت تشكر له، فقيل للجنيد: بم عرفت ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء}.
اهتم الجنيد بتربية المريد، وكان يرى أن {المريد الصادق غني عن علم العلماء، فأما الفرق بين المريد والمراد، فكل مريد على الحقيقة مراد، إذ لو لم يكن مراد الله عز وجل بأن يريده، لم يكن مريداً. إذ لا يكون إلا ما أراده الله تعالى. وكل مراد مريد، لأنه إذا أراده الحق سبحانه بالخصوصية وفقه}. وقد سئل الجنيد عن المريد والمراد فقال: {المريد تتولاه سياسة العلم، والمراد تتولاه رعاية الحق سبحانه، لأن المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق الطائر السائر}.
وكان الجنيد يهتم بصفات محددة في تلاميذه منها الصدق، الذي يقول عنه: {حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك منها إلا الكذب}. والمريد الصادق لديه هو الذي {لا يسأل ولا يعارض وإن عورض سكت}. ومنها الإخلاص الذي يراه {سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله}. ومنها كذلك الحياء وهو في نظره: {حال يولد من بين رؤية الآلاء، ورؤية التقصير}. وثمة كذلك المراقبة، والتي يقول بشأنها: {من تحقق من المراقبة خاف على فوت حظه من ربه عز وجل، وليس غيره}. وتوجد صفة أخرى أساسية، هي قاسم مشترك بين كبار المتصوفة، وهي المحبة: التي يعرّفها الجنيد بأنها: {دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب ... وهي ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك، وروحك، ومالك، ثم موافقتك له سراً وجهراً، ثم عملك بتقصيرك في حبه}، والمحب لديه هو {عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظراً إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار عن أستار عيبه، فإن تكلم بالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله}.
كذلك على المريد، في نظر الجنيد، أن يشعر دوماً بالافتقار إلى الله. وقد سئل الجنيد عن الافتقار إلى الله تعالى أهو أتم أم الاستغناء بالله؟ فقال: إذا صح الافتقار إلى الله عز وجل فقد صح الاستغناء بالله. وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمل الغنى به، فلا يقال أيهما الافتقار أم الغنى، لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.
ويجمل الجنيد تصوّره عن المتصوفة بقوله: {تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع: عند الأكل لأنهم يأكلون عن فاقة. وعند المذاكرة، لأنهم يتحاورون في مقامات الصديقين وأحوال النبيين. وعند السماع، لأنهم يسمعون بوجد، ويشهدون حقا}.
أما مجالس الذكر فإن أشرفها وأعلاها في نظر الجنيد هي {الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسّم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر بحسن الظن لله عز وجل}.
ويفرق الجنيد بين هواجس النفس ووساوس الشيطان، فيقول: {النفس إذا طالبتك بشيء ألّحت فلا تزال تعاودك ولو بعد حين، حتى تصل إلى مرادها، ويحصل مقصودها، ما لم تغلبها بصدق المجاهدة. وأما الشيطان إذا دعاك إلى زلة فخالفته، فإنه ينتقل بوسوسته إلى زلة أخرى، لأن جميع المخالفات عنده سواء، وإنما يريد أن يكون داعياً أبداً إلى زلة ما، ولا غرض له في تخصيص زلة دون زلة}.
عظات لما بعد الموت
تعددت أقوال الجنيد ونصائحه لمريديه ليعدوا العدة لما بعدالرحيل الأبدي عن الدنيا، فها هو يقول: {اتق الله، وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء، فلا تدخرن مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ولكن تزود لبعد الشقة، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، صاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهدًا فيها وحذرًا منها فإن الصالحين كانوا كذلك}.
ويقول أيضاً: {اعلم يا ابن آدم أنّ طلب الآخرة أمر عظيم لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله، وأخلِص عملك، وإذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنّ أنجى الناسِ من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء}.
وعن لحظة موت الجنيد يقول أبو محمد الجريري: {كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ، فقلت: {أرفق بنفسك!{ فقال: {ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هو ذا تطوى صحيفتي}. وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: {ما هذا يا أبا القاسم!}، قال: {هذه نعم!. الله أكبر}. فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: {لو اضطجعت!}، قال: {يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر}. فلم يزل ذلك حاله حتى مات}. وقال ابن عطاء: {دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم رد بعد ساعة، وقال: {اعذرني! فإني كنت في وردي}، ثم حول وجهه إلى القبلة ومات}.
توفي الجنيد في بغداد سنة 297 هـ، وغسله أبو محمد الجريري، وصلى عليه ولده، ودفن بتربة مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، لدى خاله سري السقطي. وصلى عليه جمع غفير من الناس قدِّر عددهم بالآلاف.
وقبل موته ترك الجنيد عظة عظيمة حول الموت لا يمكن نسيانها، وقد حوتها نصيحته التي يقول فيها: {يا ابن آدم دينك دينك، نعوذ بالله من النار فإنها نار لا تنطفىء، وعذاب لا ينفد أبدًا، ونفس لا تموت، يا ابنَ آدم إنك موقوف بين يدي الله ربك ومرتهن لعملك فخذ مم في يديكَ لما بين يديك، عند الموت يأتيك الخبر، إنك مسؤول ولا تجد جواباً، إنك لا تزال بخير ما دمت واعظاً لنفسك محاسباً لها وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك}.
ويقول أيضا: {إنما اليوم إن عقلتَ ضيفٌ نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نزله وقِراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه شهد عليك فلا تبع اليوم ولا تعد له بغير ثمنه. واحذر الحسرة عند نزول السكرة فإن الموت، آتٍ وقد مات قبلك من مات}.
[move=right]منكري الكرامات على الأولياء ينظرون للكرامة على أنها من فعل الولي
ولا ينظرون إليها على أنها فعل الله أجراه على الولي[/move]
رغم أن أبا بكر الشبلي ترك رواية الحديث وتدريس الفقه وراء ظهره وغاص في بحر التصوف حتى طمرته مياهه الصافية المتدفقة، فإن الرجل لم يجنح بعيداً عن مقتضيات الشرع، التي انطوى عليها ما تعلّمه وقام بتدريسه في حياته الأولى. لهذا يبقى الشبلي واحداً من رموز التصوّف المعتدلين، وهو إن لم يترك لنا مؤلفات يشار إليها بالبنان، كما هو الحال عند محيي الدين بن عربي وأبي حامد الغزالي والحلاج، فقد خلّف وراءه سيرة مفعمة بالحركة والعمل والالتزام، بما يجعله قدوة لكل من أراد أن يجعل من تصوّفه عبادة وزهداً وورعاً ومسلكاً للقرب من الله، وليس مجرد فلسفة أو علم كلام أو بيان أو أقوال غامضة تلفت الانتباه لذاتها ولا يروم صاحبها من ورائها غير ذلك.
لفت التزام الشبلي كثيرين فمدحوه على مجاهداته وحرصه الشديد على أن يتّسق فعله مع قوله، ويأتي ما يسلكه موافقاً لما يفكر فيه ويعتقده. هنا يقول عنه العروسي، كما ورد في حاشية {الرسالة القشيرية} الذائعة الصيت: {كان الشبلي لا نظير له في مجاهداته ومعاملاته لربه، وفي كياسته وخوفه، وذكاء قريحته، وتنبيهه على مكملات الرجوع إلى الحق، باستحلال الخلق، وإن تحقق الخلو من خوفهم اتهاماً للنفس بالذهول والتقصير}. أما عبد الوهاب الشعراني فيقول عن الشبلي: {لقد صار أوجد أهل الوقت علماً وحالا وظرفاً}. رأى فيه بعض المؤرخين: {أحد مشايخ الصوفية الكبار، وصاحب الجنيد ومن في عصره، وهو من صار أحد مشايخ الوقت حالا وقالا}.
والشبلي هو واحد من المتصوفة الكبار الذين وجد فيهم الدكتور عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق} مثالا ناصعاً على أن التصوف لا يعني التناقض، في كل الأحوال والأوضاع، مع الشرع، وأن الإيمان بالحقيقة لا يغني ولا يلهي أبدا عن الالتزام بالشريعة، إن وجد في المتصوف عزماً لا يلين على أداء الفرائض والالتزام بوسطية الإسلام، وأن هناك من المتصوفة الأوائل من يستحقّ أن يقتدى بهم، جنباً إلى جنب مع رموز الفقه والفكر والدعوة الإسلامية على مرّ العصور}. وقد كان الشبلي من هؤلاء الذين تأثر بهم الإمام عبد الحليم محمود نفسه في رحلته الصوفية، التي زاوج فيها بين الفكر والعمل.
النسب والمنشأ
هو أبو بكر جحدر بن دلف الشبلي، ولد في سامراء في العراق سنة 247 هـ، وسمي الشبلي نسبة إلى {شبلة} وهي قرية من قرى {أسروشنة} في إقليم خراسان. ينتمي الشبلي إلى أسرة ذات جاه، إذ كان أبوه يعمل حاجب الحجاب للخليفة الموفق، وكان خاله أمير أمراء الإسكندرية. عنيت أسرته بتعليمه على أفضل مستوى، فدرس اللغة العربية وعلوم الشرع دراسة مستفيضة، ثم سلك طريق الوظائف حتى وصل إلى حاجب الموفق حين كان ولياً للعهد وتولى منصب والي دنباوند، وهي ناحية من نواحي رستاق الري في جبال خراسان، وتولى كذلك حكم البصرة.
لكن الوظائف لم تلهِ الشبلي عن الاهتمام بالعلم، فكتب الحديث ورواه وتفقّه على مذهب الإمام مالك بن أنس، وحفظ القرآن الكريم، كذلك الأحاديث التي وردت في {موطأ مالك}، إلى أن أصبح صاحب حلقة يدرّس فيها علمه وفقهه، حتى قال عنه أبو عبد الله الرازي: {لم أرَ في الصوفية أعلم من الشبلي}، وهي شهادة لم يجرحها أحد على الأرجح.
أساتذة وروافد
وفي غمرة الرواية والكسب تقابل الشبلي مع ولي الله خير النساج، الذي ترك الدنيا وراء ظهره وتجرد لعبادة الله تعالى. امتلأ الشبلي بما كان يسمعه من النساج، حتى رجع إلى البلدة التي كان والياً عليها وقال لأهلها: {أنا كنت صاحب الموفق، وكان ولاني بلدتكم هذه، فاجعلوني في حلّ}، فكان له ما أراد، لكن الناس تشككوا في أن قراره ليس حراً إنما هو ناجم عن غضب الموفق منه، فأشفقوا عليه، وجمعوا له هدايا ومالا، وعرضوهما أمام عينيه فرفض أن يأخذ شيئاً، مؤثراً الذهاب إلى أبعد حدّ في طريق الله الفسيح.
تغيرت حياة الشبلي تماماً، وانقلبت إلى حال جديد لم يعرفه هو نفسه من قبل ولم يألفه أصحابه ومن حوله عنه. صادق الشبلي في هذه المرحلة الشيخ أبو القاسم الجنيد (ت 297 هـ)، الذي كان وقتها قطباً من أقطاب التصوف، عميق العلم والمعرفة، قانتاً زاهداً عابداً، وكان الكتبة يحضرون مجلسه لعذب بيانه ودقة ألفاظه، والفقهاء لتقريره، والفلاسفة لعمق نظره وصواب معانيه، والمتكلمون لاهتمامه بالتحقيق، والمتصوفة لإشاراته وحقائقه.
ظهر تأثير الجنيد في الشبلي، شأنه شأن الكثيرين من رموز التصوف ومريديه في زمانه، لا سيما في مسائل ثلاث وهي التوحيد والمعرفة اللدنية والمحبة، كذلك في ربط الحقيقة بالشريعة، إذ كان الجنيد يجمع بينهما في مذهبه ويراهما ممتزجين لا فصل بينهما، بل إن الحقيقة عنده يجب أن تستمدّ نورها الغامر من نور الشرع الإلهي.
ارتبط الشبلي بالجنيد ارتباطاً روحياً شديداً، فكان يجتهد في أن يأخذ عنه بقدر ما يستطيع، ويبحث عنه في كل مكان، ويسعى وراءه أينما حلّ. وقيل إنه بحث عنه ذات يوم في المسجد فلم يجده، فذهب إلى بيته، ووقف أمام الباب وأنشد يقول:
عودوني الوصال والوصل عذب
ورموني بالصد والصد صعب
زعموا حين أزمعوا ذنبي
فرط حبي لهم وما ذاك ذنب
لا وحق الخضوع عند التلاقي
ما جزى من يحب إلا بحب
وسمعه الشيخ الجنيد فتأثر تأثرا شديداً وقابل إنشاده بإنشاد ورد عليه قائلاً:
وتمنيت أن أراك فلما رأيتكا
غلبت دهشة السرور فلم أملك البكا
وكان الشيخ الجنيد يقول لأصحابه حين يرى فيهم اندهاشاً من تعلق الشبلي به: {لا تنظروا إلى أبي بكر الشبلي بالعين التي ينظر بها بعضكم إلى بعض، فإنه عين من عيون الله تعالى}.
عني الجنيد بتلميذه وكان حريصاً في كل الأوقات على تعليمه وتصويب مسلكه. وهناك واقعة تدلّ على ذلك، فذات مرة قال الشبلي وكان بين يدي أستاذه: {لا حول ولا قوة إلا بالله}. فالتفت الجنيد إليه وقال: {قولك ذا ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء}. فصمت الشبلي ولم يعقب.
الصوفية والتصوف
كان الشبلي يرى أن الصوفية سميت بهذا الاسم لبقية علقت على المتصوفة من نفوسهم، ولولاها لما تعلقت بهم تلك التسمية الجلية. أراد الشبلي من هذا، كما يقول الدكتور عبد الحليم محمود، {أن يبين أن الاتجاه إلى الله والقرب منه سبحانه ـ وهذا هو التصوف، يقتضي أن يتجرد الإنسان من النزعات والشهوات والنفس الأمارة بالسوء، وأن تذوب شخصيته في جو الأخلاق الربّانية، وتمحى إراداته في إرادة الله، وأن يكون هواه تبعاً للشريعة}.
كان الشبلي يرى في التصوف {ترويحا للقلوب بمراوح الصفاء، وتجليلا للخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء، والبشر في اللقاء}، وكان يقول عن المتصوف: {لا حال يقلّ، ولا سماء يظلّ}، قاصدا بذلك أن المتصوفة لا يثبتون على حال، بل يسعون دوماً إلى التقدّم في الحب الإلهي، والترقي في الزهد والتعبد، والبحث الذي لا ينتهي عن تحصيل رضاء المحبوب. وكان الشبلي نفسه خير مثال لهذا الأمر، إذ آمن دوماً بأنه {ليس لمريد فترة}، ووعى جيداً قول أستاذه الجنيد عن التصوف: {إنه عنوة لا صلح فيها}، ولهذا كان الشبلي إذا دخل عليه شهر رمضان الكريم أكثر من الطاعات، قائلا: {هذا الشهر عظّمه الله، فأنا أقوم بتعظيمه}.
لهذا أيضا داوم الشبلي على الذكر، واعتبره علاجا للروح، وتقوية للنفس في مواجهة الشدائد، ولهذا كان يقول: {ذكر الله على الصفاء، ينسي العبد مرارة البلاء}، ويقول: {ليس للأعمى من الجوهرة إلا لمسها... ولا للجاهل من الله إلا ذكره باللسان}. وقد سئل ذات يوم عن الصاحب الذي يصطفيه فقال بكل ثقة: {ألهجهم بذكر الله، وأسرعهم مبادرة لرضاه}.
كان الشبلي يطالب الناس دوماً بأن يبحثوا عما يأخذهم بعيداً عن الدنيا ومفاتنها. فها هو يقول: {ما أحوج الناس إلى سكرة}. فقيل له: {أي سكرة؟} فقال: {سكرة تغنيهم عن ملاحظة أنفسهم، وأفعالهم وأحوالهم، والأكوان وما فيها}. ثم فسر هذا المعنى في عبارة بليغة تقول: {ليس يخطر الكون ببالي، وكيف يخطر الكون ببال من عرف المكون}.
وكان الشبلي ينظر إلى الناس اللاهين في الحياة، والساعين إلى مزيد من القوة والتمكن في العاجلة، ويقول: {مساكين هؤلاء المماليك، نظروا بعيونهم إلى الملكوت المخلوق، ورضوا بالجنان المخلوقة، فبقوا معها خالدين فيها، وأما الملوك فلم يرضوا بها، فنظروا بقلوبهم إلى مالك الملوك، فبقوا معه في مقعد صدق عند مليك مقتدر}. ويبالغ الشبلي في دعوته إلى التعلق الدائم الدائب بالذات الإلهية فيقول: {طرفة عين في غفلة عن الله لأهل المعرفة شرك}.
بالطبع فهو يقصد بأهل المعرفة، هؤلاء الذين توغلوا راحلين في طريق الله، فحصلوا من الإلهام ما لم يؤتَ لغيرهم، لذا فعليهم من المقتضيات والمتطلبات ما يزيد عما هو على غيرهم، ممن هم في أول الطريق، أو بالأحرى الذين لم يدخلوه بعد. وكان الشبلي يريد هنا أن يقول {إن من ذاق عرف، ومن عرف التزم وأمسك}.
وقد ذكر بعض من عاصروا الشبلي أنه بمجرد {التوبة} ونزوله بحر الصوفية الزاخر بالروحانيات والمعرفة اللدنية، كان مجتهداً في عبادته إلى أقصى حد مستطاع، بل فوق أي حدّ متوقع. كان يؤمن بأن توسل المجاهدة في طلب الحق لن يجعل المريد يصل إلى ما طلبه، أما من طلب الله به فسيصل إليه. وكان ينشد في خدمة هذا المعنى قائلا:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يجتمعان
هي شامية إذا ما استهلت
وسهيل إذا استهل يماني
وكان الشبلي زاهداً، والزهد لديه هو {تحويل القلب من الأشياء إلى رب الأشياء}. وكان متوكلا على الله، معتبراً أن التوكّل الحقّ يعني الرضاء بفعل الله وما قضى به وقدره، وهنا يذكر في عبارة حوارية: {يقول أحدهم: توكلت على الله، وهو يكذب عليه، لو توكل عليه رضى بفعله}. وقد بلغت مراقبة الله ومراعاة حبه عند الشبلي أنه قال حين سئل عن الاستقامة: {الاستقامة هي أن تشهد الوقت قيامة}.
وكان الشبلي يغار لله تعالى، فيغضب حين يجد أمامه مخالفة للحق، واتباعاً للهوى. وها هو يقول في هذه المسألة: {الغيرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع في ما سوى الله تعالى، والواجب أن يقال: {إن الغيرة غيرتان، غيرة الحقّ سبحانه على العبد، وهو ألا يجعله للخلق، فيضنّ به عليهم، وغيرة العبد للحقّ، وهو ألا يجعل شيئاً من أحواله وأنفاسه لغير الحقّ تعالى. فلا يقال أنا أغار على الله تعال، ولكن يقال: أنا أغار لله تعالى، وإذن فالغيرة على الله جهل، وربما تؤدي إلى ترك الدين، والغيرة لله تعالى توجب تعظيم حقوقه، وتصفية الأعمال له. ومن سنّة الحق تعالى مع أوليائه أنهم إذا ساكنوا غيراً، أو لاحظوا شيئاً، أو ضاجعوا بقلوبهم سواه، شوش عليهم ذلك، فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه، فارغة عما ساكنوه أو ضاجعوه}.
آمن الشبلي بأن المعرفة الحقة لا حدود لها، وأن بدايتها هي الله، الذي علم آدم الأسماء كلها. وهنا يقول: {ليس لعارف علاقة، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، والمعرفة أولها الله تعالى، وآخرها ما لا نهاية}.
كأس المحبة
كان الشبلي منادياً بالمحبة، التي رأى فيها {صراط الأولياء}، وهي عنده {اتباع أوامر المحبوب، وتجنب نواهيه... والفراغ للحبيب، وترك الاعتراض على الرقيب... وهي كأس لها وهج، إن استقرت في الحواس قتلت، وإن سكنت في النفوس أسكرت، فهي سكر في الظاهر، ومحبة في الباطن... المحبة الكاملة أن تحبه من قبله}.
وكان شرط المحبة الأساسي لديه هي الهمة، ولذا ردد دوماً: {من ملت همّته، ضعفت محبته}. كذلك المحبة عنده الرق للمحبوب وطاعته وعدم الغفلة عنه. لذا أنشد ذات مرة في جماعة من المريدين كانوا عنده، ووجدهم قد غفلوا عن ذكر الله وتسبيحه:
كفى حزناً بالواله الصبّ أن يرى
منازل من يهوى معطلة قفرا
وأنشد ذات مرة حين سئل عن قلوب المشتاقين:
أسر بمهلكي فيه لأني
أسر بما يسر الألف جدا
ولو سئلت عظامي عن بلاها
لأنكرت البلى وسمعت جحدا
ولو أخرجت من سقمي لنادى
لهيب الشوق بي يسأله ردا
وهناك أبيات من الشعر دالة في هذا المقام، أنشدها الشبلي تباعاً وفي أوقات متفرّقة، لكنه كان في جميعها على حال من الوجد والهيام في حبّ الخالق العظيم:
لتحشرن عظامي بعد إذ بليت
يوم الحساب وفيها حبكم علق
وأنشد أيضا يقول:
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجد أموت من الهوى
وهام على القلب بالخفقان
فلما أراني الوجد أنك حاضري
شهدتك موجوداً بكل مكان
فخاطبت موجوداً بكل تكلم
ولاحظت معلوماً بغير عيان
لم يكن الشبلي مجافيا للشرع في تصوّفه، بل كان {يبالغ في تعظيم الشرع المطهّر} حسب قول بعض المؤرخين والمتصوفة. وكان يعتبر التمسّك بالشريعة من معجزات المتصوف، حيث نقل عنه أنه قال ذات مرة: {كل صديق لا يكون له معجزة كذاب}. فسأله علي بن عيسى الوزير يوماً: {أين معجزتك أنت؟} فرد على الفور: {موافقة الله في أوامره ونواهيه}. وهناك رواية أخرى تقول إنه رد على الوزير: {معجزتي أن تعرض خاطري في حال صحوي على خاطري في حال سكري، فلا يخرجان عن موافقة الله تعالى}. ويتفق هذا مع إجابته عن سؤال {كيف يكون الشخص مريداً؟} بقوله: {إذا استوت حالاته في السفر والحضر، والمشهد والمغيب}.
ولذا كان الشبلي ينصح المتصوفة دائماً، ويقول للواحد منهم: {لا تأمن على نفسك وإن مشيت على الماء، حتى تخرج من دار الغرور إلى دار الأمن}، وكان يقول أيضا: {أعمى الله بصراً يراني، ولا يرى في آثار القدرة. فأنا أحد آثار القدرة، وأحد شواهد العزة، لقد ذللت حتى عزّ في ذلي كلّ ذل، وعززت حتى ما تعزز أحد إلا بي، أو بمن تعززت به، وما افترقنا، وكيف نفترق ولم يجرِ علينا حال الجمع أبدا}.
وقبيل رحيله إلى الرفيق الأعلى أنشد الشبلي:
كل بيت أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم تأتي الناس بالحجّ
توفي الشبلي سنة 334 هـ بعد أن عاش سبعة ثمانين عاما كاملة، ودفن في بغداد في مقبرة الخيزران، وظل قبره شاهداً يزوره الناس، من دون أن يعرف أغلبيتهم الكثير عن صاحب المقام، الذي عاش عالماً زاهداً تقياً ملتزما بالشرع، هائماً على وجهه في عشق الخالق العظيم، جلّ شأنه وعظمت قدرته.