إبراهيم بن أدهم... سلطان الزاهدين الذي اتّفق الجميع عليه
د. عمار علي حسن
أطلق عليه الناس «سلطان الزاهدين». متفق على ورعه وزهده ونبل مقصده وحسن سيرته لدى الفرق والجماعات والتيارات الإسلامية كافة. كان يبحث عن الحلال عملاً وطعاماً، ويعد هذا الأمر جوهر العبادة. ترك وراءه أقوالا مأثورة ومواعظ محفورة في قلوب العارفين.
هو إبراهيم بن منصور بن يزيد بن جابر التميمي البلْخي، ويكنَّى بأبي اسحق. مسقط رأسه كورة بلخ في خراسان، ولد في مكة حين كان أبوه يحج مع زوجته وهي حبلى، وقيل إنها طافت به على الخلق في الحرم، وطلبت من كل من رأته أن يدعو الله له أن يكون صالحاً. وقد كان الأب من الأثرياء، فعاش ابنه في كنفه حياة رخية مترفة، وكان مشغولاّ في مقتبل حياته بالصيد.
ويقال إنه خرج ذات يوم في رحلة صيد راكبًا فرسه، وكلبه معه، فسمع هاتفاً يقول له: ليس لهذا خلقت ولا بذا أمرت. وتكرر النداء مرات عدة، فأيقن أنه هاتف من السماء، فأوقف فرسه، وصادف راعياً لأبيه، فأخذ جبته ولبسها، وأعطاه ثيابه وقماشه وفرسه وترك طريقته، ثم قال: والله لا عصيت الله بعد يومي إذا ما عصمني ربي، ثم بدأ رحلته إلى الله بطلب العلم والغوص في قيعان الزهد البعيدة، فذهب إلى مكة وصحب سفيان الثوري، والفُضَيْل بن عياض، وتعلم منهما الكثير، ثم عاد إلى الشام، وشارك في الجهاد، ورابط على الثغور، واستقر زمناً في البصرة، وذاع صيته بين الناس.
وتنقل هذه الحكاية عنه بطريق إبراهيم بن بشار الذي قال: قلت لإبراهيم بن أدهم: كيف كان بدء أمرك؟ قال: غير ذا أولى بك. قلت: أخبرني لعل الله أن ينفعنا به يوماً. قال: كان أبي من الملوك المياسير، وحبب إلينا الصيد، فركبت، فثار أرنب أو ثعلب، فحركت فرسي، فسمعت نداء من ورائي: ليس لذا خلقت، ولا بذا أمرت. فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحدا، فقلت: لعن الله إبليس، ثم حركت فرسي، فأسمع نداء أجهر من ذلك: يا إبراهيم! ليس لذا خلقت، ولا بذا أمرت فوقفت أنظر فلا أرى أحداً، فقلت: لعن الله إبليس، فأسمع نداء من قربوس سرجي بذاك، فقلت: أنبهت، أنبهت، جاءني نذير، والله لا عصيت الله بعد يومي ما عصمني الله، فرجعت إلى أهلي، فخليت فرسي، ثم جئت إلى رعاة لأبي، فأخذت جبة كساء، وألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق، فعملت بها أياماً، فلم يصف لي منها الحلال، فقيل لي: عليك بالشام، وقال الخادم له: أنت تحرس فاكهتنا، ولا تعرف الحلو من الحامض؟ قلت: والله ما ذقتها. فقال: أتراك لو أنك إبراهيم بن أدهم، فانصرف، فلما كان من الغد، ذكر صفتي في المسجد، فعرفني بعض الناس، فجاء الخادم ومعه عنق من الناس، فاختفيت خلف الشجر، والناس داخلون، فاختلطت معهم وأنا هارب.
وقيل إنه كان يلبس فرواً بلا قميص، وفي الصيف شقتين بأربعة دراهم: إزار ورداء، ويصوم في الحضر والسفر، ولا ينام الليل، وكان يتفكر، ويقبض أصحابه أجرته، فلا يمسها بيده، ويقول: كلوا بها شهواتكم، وكان يطحن بيد واحدة مدّين من القمح.
شهد لابن أدهم كثيرون، وتحدثوا عن مآثره، فقال البخاري: قال لي قتيبة: إبراهيم بن أدهم تميمي يروي عن منصور، وقال النسائي: هو ثقة مأمون، أحد الزهاد. وقال عنه يونس البلخي: كان من الأشراف، وكان أبوه كثير المال والخدم. وفي «رسالة القشيري»، قال: ورأى في البادية رجلاً، علمه الاسم الأعظم فدعا به، فرأى الخضر، وقال: إنما علمك أخي داود. وقال عنه عبد الله بن المبارك: وله فضل في نفسه، صاحب سرائر، وما رأيته يظهر تسبيحاً، ولا شيئاً من الخير، ولا أكل مع قوم قط، إلا كان آخر من يرفع يده. أبو نعيم: سمعت سفيان يقول: كان إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل، ولو كان في الصحابة، لكان رجلاً فاضلاً. وقال بشر الحافي: ما أعرف عالماً إلا وقد أكل بدينه، إلا وهيب بن الورد وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط، وسلم الخواص.
لم يكن ابن أدهم متواكلاً، يميل إلى العبادة على حساب العمل، بل كان يأكل من عمل يده. فقد عمل أجيرًا لدى أصحاب المزارع، يحصد لهم الزروع، ويقطف لهم الثمار ويطحن الغلال، ويحمل الأحمال على كتفيه، ويحرس البساتين، وكان سخياً لا يحتفظ بشيء من أجره بل ينفقه على أصحابه وذوي الحاجة مكتفياً بأبسط طعام، الذي كان غالباً ما يكون الخبز والماء.
وفي هذا، سمعه أحد أصحابه ذات مرة وهو يقول: ذهب السخاء والكرم والجود والمواساة، من لم يواسِ الناس بماله وطعامه وشرابه فليواسهم ببسط الوجه والخلق الحسن. إياكم أن تكون أموالكم سببًا في أن تتكبروا على فقرائكم، أو سببًا في ألا تميلوا إلى ضعفائكم، وألا تبسطوا إلى مساكينكم.
كان نشيطًا في عمله، يحكي عنه أنه حصد في يوم من الأيام ما يحصده عشرة رجال، وفي أثناء حصاده كان ينشد قائلاً: «اتَّخِذِ اللَّه صاحبًا... ودَعِ النَّاسَ جانباً».
ويروي بقية بن الوليد، يقول: دعاني إبراهيم بن أدهم إلى طعامه، فأتيته، فجلس ثم قال: كلوا باسم الله، فلما أكلنا، قلت لرفيقه: أخبرني عن أشد شيء مرَّ بك منذ صحبته. قال: كنَّا صباحًا، فلم يكن عندنا ما نفطر عليه، فأصبحنا، فقلت: هل لك يا أبا إسحاق أن تأتي الرَّسْتن، وهي بلدة بالشام كانت بين حماة وحمص، فنكري أنفسنا مع الحصَّادين؟ قال: نعم. قال: فاكتراني رجل بدرهم، فقلت: وصاحبي؟ قال: لا حاجة لي فيه، أراه ضعيفًا. فما زلت بالرجل حتى اكتراه بثلثي درهم، فلما انتهينا، اشتريت من أجرتي طعامي وحاجتي، وتصدقت بالباقي، ثم قربت الزاد، فبكى إبراهيم، وقال: أما نحن فاستوفينا أجورنا، فليت شعري أوفينا صاحبه حقه أم لا؟ فغضبت، فقال: أتضمن لي أنّا وفيناه، فأخذت الطعام فتصدقت به.
ويروى أنه ادخر من عمله عشرين ديناراً ودخل إلى أذنة، ومعه صاحب له. فأراد أن يحلق ويحتجم، فجاء إلى حجام، فحقره الحجام وصاحبه، وقال: «ما في الدنيا أحد أبغض إلي من هؤلاء! أما وجدوا غيري!» فقضى شغل غيرهما، وأعرض عنهما. ثم قال: أي شيء تريدان؟ فقال إبراهيم: «أحتجم وأحلق». ففعل به، وأما صاحبه فقال له: لا أفعل ذلك! لتهاونه بهما، ثم أعطاه إبراهيم الذي كان معه، فقال له صاحبه: «كيف ذاك!» فقال: «اسكت لئلا يحتقر فقيراً بعده».
كذلك روى أنه كان يعمل في الحصاد وحفظ البساتين وغير ذلك، وينفق على من في صحبته من الفقراء وكان يعمل نهاره، ويجتمعون ليلاً إلى موضع، وهم صيام، وكان إبراهيم يبطئ في رجوعه من عمله. فقالوا ليلة: «هلمّ نسبقه حتى لا يبطئ، ففعلوا وناموا. فجاء إبراهيم، فظن أنهم لم يجدوا طعاماً، فأصلحه لهم، فانتبهوا وقد وضع شيبته في النار، وينفخ بها، فقالوا له في ذلك فقال: «ظننت أنكم نمتم جوعى لأجل العدم، فأصلحت لكم ذلك!»، فقال بعضهم لبعض: أنظروا ما الذي عملنا، وما الذي يعاملنا به.
وركب مرة البحر، فهاج عليهم، فلف رأسه في عباءة ونام. فقيل له: ما ترى ما نحن فيه من الشدة! فقال: ليس هذا شدة! الشدة الحاجة إلى الناس. ثم قال: اللهم! أريتنا قدرتك، فأرنا لطفك.
ومن القصص التي تروى دوماً على المنابر أن أهل البصرة جاؤوا يومًا وقالوا له: يا إبراهيم إن الله تعالى يقول في كتابه: «ادعوني أستجب لكم»، ونحن ندعو الله منذ وقت طويل فلا يستجيب لنا؟! فقال لهم إبراهيم ابن أدهم: يا أهل البصرة، ماتت قلوبكم في عشرة أشياء، فلم يستجب لدعائكم: عرفتم الله، ولم تؤدوا حقه، وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، وادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته، وادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه، وقلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها، وقلتم نخاف النار ورهنتم أنفسكم بها، وقلتم: إن الموت حق ولم تستعدوا له، واشتغلتم بعيوب إخوانكم ونبذتم عيوبكم، وأكلتم نعمة ربكم ولم تشكروها، ودفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بها.
أما هو فقد كان مستجاب الدعاء. فذات يوم كان في سفينة مع أصحابه، فهاجت الرياح، واضطربت السفينة، فبكوا، فقال إبراهيم: يا حي حين لا حي، ويا حي قبل كل حي، ويا حي بعد كل حي، يا حي، يا قيوم، يا محسن يا مُجْمل قد أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك. فبدأت السفينة تهدأ، وظل إبراهيم يدعو ربه ويكثر من الدعاء. وكان أكثر دعائه: اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك. وكان يقول: ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا. وكان يقول لأصحابه إذا اجتمعوا: ما على أحدكم إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول: اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت الرجاء.
وكان يتوجه إلى الناس ويقول لهم: «خالفتم الله فيما أنذر وحذر، وعصيتموه فيما نهى وأمر، وإنّما تحصدون ما تزرعون، وتجنون ما تغرسون، وتكافأون بما تفعلون، وتُجزوْنَ بما تعملون، فاعلموا إن كنتم تعقلون، وانتبهوا من رقدتكم لعلكم تفلحون، الحذر الحذر!! الجدّ الجدّ!! كونوا على حياء من الله، فوالله لقد ستر وأمهل وجاد فأحسن.
عُرف عن ابن أدهم شدة التواضع، وكان يقول: إياكم والكبر والإعجاب بالأعمال، أنظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، من ذلل نفسه، رفعه مولاه، ومن خضع له أعزه، ومن اتقاه وقاه، ومن أطاعه أنجاه.
كان ابن أدهم يوقن دوماً أن باب التوبة مفتوح، لكنه مشروط، فها هو يقول: من أراد التوبة، فليخرج من المظالم، وليدع مخالطة الناس، وإلا لم ينل ما يريد. ويقول أيضاً: وأي دين لو كان له رجال! من طلب العلم لله، كان الخمول أحب إليه من التطاول، والله ما الحياة بثقة، فيرجى نومها، ولا المنية بعذر، فيؤمن عذرها، ففيم التفريط والتقصير والاتكال والإبطاء؟ قد رضينا من أعمالنا بالمعاني، ومن طلب التوبة بالتواني، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني.
وكان في هذا يقول أيضاً: لا تُنال جنته إلا بطاعته، ولا تنال ولايته إلا بمحبته، ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، فإن الله تعالى قد أعدّ المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعدّ الجنة للخائفين، وأعدّ الحور للمطيعين، وأعدّ رؤيته للمشتاقين، قال الله تعالي: «وإِنِّى لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَءََامَنَ وعَِملَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى».
وقد أتى إليه رجل فقال: يا أبا إسحاق إني مسرف على نفسي، فاعرض عليّ ما يكون لها زاجراً ومستنقذاً.
فقال إبراهيم: إن قبلت خمس خصال، وقدرت عليها لم تضرك المعصية.
قال: هات يا أبا إسحاق.
قال: أما الأولى: فإذا أردت أن تعصي الله تعالى، فلا تأكل من رزقه.
قال: فمن أين آكل، وكل ما في الأرض رزقه؟
قال: يا هذا! أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟
قال: لا… هات الثانية.
قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئاً من بلاده؟
قال: هذه أعظم، فأين أسكن؟
قال: يا هذا! أفيحسن بك أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده، وتعصيه؟
قال: لا… هات الثالثة.
قال: وإذا أردت أن تعصيه، وأنت تأكل رزقه، وتسكن بلاده، فانظر موضعاً لا يراك فيه فاعصه فيه؟
قال: يا إبراهيم! ما هذا؟ وهو يطلع على ما في السرائر؟
قال: يا هذا! أفيحسن بك أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده، وتعصيه وهو يراك ويعلم ما تجاهر به وما تكتمه؟
قال: لا... هات الرابعة.
قال: فإذا جاءك الموت ليقبض روحك، فقل له: أخرني حتى أتوب توبة نصوحاً، وأعمل لله صالحاً.
قال: لا يقبل مني؟
قال: يا هذا! فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاءك لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟
قال: هات الخامسة.
قال: إذا جاءك الزبانية يوم القيامة، ليأخذوك إلى النار، فلا تذهب معهم؟
قال: إنهم لا يدعونني، ولا يقبلون مني.
قال: فكيف ترجو النجاة إذن؟
قال: يا إبراهيم، حسبي، حسبي، أنا أستغفر الله وأتوب إليه.
فكان لتوبته وفيّاً، فلزم العبادة، واجتنب المعاصي حتى فارق الدنيا.
وقد قيل له أوصنا بما ينفعنا فقال: إذا رأيتم الناس مشغولين بأمر الدنيا فاشتغلوا بأمر الآخرة. وإذا اشتغلوا بتزيين ظواهرهم فاشتغلوا بتزيين بواطنكم. وإذا اشتغلوا بعمارة البساتين والقصور فاشتغلوا بعمارة القبور. وإذا شتغلوا بخدمة المخلوقين فاشتغلوا بخدمة رب العالمين. وإذا اشتغلوا بعيوب الناس فاشتغلوا بعيوب أنفسكم. واتخذوا من الدنيا زاداً يوصلكم إلى الآخرة فإنما الدنيا مزرعة الآخرة.
وعن هذا المعنى يروي إبراهيم بن بشار قائلاً: أمسينا مع إبراهيم ليلة، ليس لنا ما نفطر عليه، فقال: يا ابن بشار! ماذا أنعم الله على الفقراء والمساكين من النعيم والراحة، لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة، ولا حج، ولا صدقة، ولا صلة رحم! لا تغتم، فرزق الله سيأتيك، نحن -والله- الملوك الأغنياء، تعجلنا الراحة، لا نبالي على أي حال كنا إذا أطعنا الله. ثم قام إلى صلاته، وقمت إلى صلاتي، فإذا برجل قد جاء بثمانية أرغفة، وتمر كثير، فوضعه، فقال: كل يا مغموم. فدخل سائل، فأعطاه ثلاثة أرغفة مع تمر، وأعطاني ثلاثة، وأكل رغيفين. وكنت معه، فأتينا على قبر مسنم، فترحم عليه، وقال: هذا قبر حميد بن جابر، أمير هذه المدن كلها، كان غارقاً في بحار الدنيا، ثم أخرجه الله منها. بلغني أنه سر ذات يوم بشيء، ونام، فرأى رجلاً بيده كتاب، ففتحه، فإذا هو كتاب بالذهب: لا تؤثرن فانياً على باق، ولا تغترن بملكك، فإن ما أنت فيه جسيم لولا أنه عديم، وهو ملك لولا أن بعده هُلْك، وفرح وسرور لولا أنه غرور، وهو يوم لو كان يوثق له بغد، فسارع إلى أمر الله، فإن الله قال: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» فانتبه فزعاً، وقال: هذا تنبيه من الله وموعظة. فخرج من ملكه، وقصد هذا الجبل، فعبد الله فيه حتى مات.
ولإبراهيم ابن أدهم مواعظ معروفة، ومحفورة في قلوب الزاهدين. ومنها: «ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذمّ مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهّدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونُهيتم عن طلبها فطلبتموها، وأنذرتم الكنوز فكنزتموها دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها وفتنتكم فأنفذتم خاضعين لأمنيتها، تتمرغون في زهواتها وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها وتتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها، وتحصّنون بالجهل في مساكنها، وأنتم غرقى في بحار الدنيا، حيارى تتمتعون في لذاتها وتتنافسون في غمراتها، فمن جمعها ما تشبعون، ومن التنافس منها ما تملّون، كذبتكم والله أنفسكم وغرّتكم ومنّتكم الأماني، وعللتكم بالتواني حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم والصدق من نياتكم، وتتنصتون إليه من مساوئ ذنوبكم وتعصونه في بقية أعمالكم أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه: «أَمْ نَجْعَلُ الذينَ ءَامَنوا وعَِملُوا الصَّالِحاتِ كالمُفْسِدينَ في الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَقينَ كالفُجَّارِ».
كذلك كانت له أقوال مشهورة، منها:
ـ الفقر مخزون في السماء، يعدل الشهادة عند الله، لا يعطيه إلا لمن أحبه.
- على القلب ثلاثة أغطية: الفرح، والحزن، والسرور. فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، الحريص محروم. وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب. وإذا سررت بالمدح فأنت معجب، والعجب يحبط العمل. ودليل ذلك قول القرآن: «لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم».
- قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تكثر الهم والجزع.
- كل سلطان لا يكون عادلاً فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقيًّا فهو والذئب سواء، وكل من ذلَّ لغير الله، فهو والكلب سواء.
- إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك واقطع الطمع إلا من ربك.
قال تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».
- إذا كنت بالليل نائماً وبالنهار هائماً وفي المعاصي دائماً فكيف تُرضي من هو بأمورك قائماً، ثم أنشد:
قم الليل يا هذا لعلــك تــرشد
إلى كم تنام الليل والعمـر يَنْفَدُ
أراك بطول الليل ـ ويحك ـ نائماً
وغيرك في محــرابه يتهجدُ
بحزم وعزم واجـــتهاد ورغبة
ويعلم أن الله ذا العرش يُعـبدُ
أترقد يا مغرورُ والنارُ تـــوقدُ
فلا حرها يطفا ولا الجمر يخمدُ
فيا راكب العصيان ويحك خَلِّهــا
ستحشر عطشاناً ووجهك أسودُ
توفي ابن أدهم سنة 162 هـ وهو مرابط في إحدى جزر البحر المتوسط، ولما شعر بدنوّ أجله قال لأصحابه: أوتروا لي قوسي. فأوتروه. فقبض على القوس ومات وهو قابض عليها يريد الرمي بها، وقيل إنه مات في حملة بحرية على البيزنطيين، ودُفن في مدينة جبلة على الساحل السوري، وأصبح قبره مزاراً، وجاء في معجم البلدان أنه مات بحصن سوقين ببلاد الروم.
توفي ابن أدهم سنة 162 هـ وهو مرابط في إحدى جزر البحر المتوسط، ولما شعر بدنوّ أجله قال لأصحابه: أوتروا لي قوسي. فأوتروه. فقبض على القوس ومات وهو قابض عليها يريد الرمي بها، وقيل إنه مات في حملة بحرية على البيزنطيين، ودُفن في مدينة جبلة على الساحل السوري، وأصبح قبره مزاراً، وجاء في معجم البلدان أنه مات بحصن سوقين ببلاد الروم.
ذاعت شهرة ابن أدهم في شتى أرجاء العالم الإسلامي، فنجد أخباراً لسيرته وقصصاً حوله، وخصوصاً في الهند وملاوي وإندونيسيا وغيرها. وأطلق عليه الناس لقب «سلطان الزاهدين».
ويرصد الباحث ياسر ماري الكتابات التاريخية المتناثرة في مسجد إبراهيم بن أدهم، الذي بني على ما يبدو سنة 994 هـ، فعلى الحائط الخارجي لغرفة الضريح إلى يمين الباب، لوحة مكتوب عليها:
قد نال إبراهيم من ربّه
ما نال أدهم من قبله
ناس تأتي إلى بابه
ويطعمون الطعام على حبّه
أما اللوحة الثانية، فتقع في الجدار الشرقي المجاور لغرفة الضريح، ونص الكتابة فيها:
بحمد اللّه والهادي المعظّم
وأسرار الولي طرز معلّم
تكمّل ذا البنا في خير عام
ومتولّي المقام رقى مكرّم
وعبد القادر الراجي ثوابا
وغفرانا له واللّه أعلم
برمْضانَ المعظّمِ جاء تاريخ
إتمـامٍ لإبراهيمَ أدهـم
أما اللوحة الثالثة، فتقع في الجدار الشمالي، ونصّ الكتابة فيها:
وفي عام تسعين مع تسعمائة
وأربع سنين قد مضين تمام
مقام ابن أدهم قدّس اللّه سرّه
تكمّل في خير وحسن ختام.