مقدمة في ذكر العشق واسمه وما جاء في حده ورسمه
اعلم أن العشق طمع يتولد في القلب، ويتحرك وينمو، ثم يتربى، وتجتمع إليه مواد من الحرص، وكلما قوي زاد صاحبه في الاهتياج واللجاج، والتمادي في الطمع والفكر والأماني، والحرص على الطلب، حتى يؤديه ذلك إلى الغم المقلق، ويكون احتراق الدم عند ذلك باستحالة السواد، أو التهاب الصفراء وانقلابها إليها، ومن طبع السواد إفساد الفكر، ومع فساد الفكر يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون وتمني ما لا يتم، حتى يكون ذلك إلى الجنون، فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غماً، وربما نظر إلى معشوقه فمات فرحا، وربما شهق شهقة فتختنق روحه، فيبقى أربعا وعشرين ساعة، فيظنون أنه مات، فيدفنونه وهو حي، وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه، وينضم عليها القلب ولا ينفرج حتى يموت، وتراه إذا ذكر من يهواه هرب دمعه واستحال لونه. ذكره فيثاغورث الحكيم الذي أخذ عن أصحاب سليمان بن داود عليهما السلام، على ما ذكره صاعد في كتاب "الطبقات". وقال تلميذه أفلاطون: هو قوة غريزية متولدة من وسواس الطمع
وأشباح التخيل، نام بنصال الهيكل الطبيعي، محدث للشجاع جبنا وللجبان شجاعة، يكسو كل إنسان عكس طباعه حتى يبلغ به المرض النفساني والجنون الشوقي فيؤديانه إلى الداء العضال الذي لا دواء له. وقال تلميذه أرسطاطاليس: العشق عمى العاشق عن عيوب المعشوق. وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "حبك الشيء يعمي ويصم".والذي مشى عليه أبو علي ابن سينا وغيره من الأطباء، أنه مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا، يجلبه المرء إلى نفسه بتسلط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل، وقد تكون معه شهوة جماع وقد لا تكون. وقال سيد الطائفة الجنيد رحمه الله: العشق إلفة رحمانية وإلهام شوقي أوجبهما كرم الإله على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الإلفة وهي موجودة في الأنفس بقدر مراتبها عند أربابها، فما أحد إلا عاشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق، ولأجل ذلك كان أشرف المراتب في الدنيا مراتب الذين زهدوا فيها مع كونها معاينة، ومالوا إلى الأخرى مع كونه مخبرا لهم عنها بصورة اللفظ. وقال الأصمعي: سألت أعرابية عن العشق فقالت: جل والله عن أن يرى، وخفي عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. وقال أبو وائل الأوضاحي: إن لم يكن طرفا من الجنون فهو عصارة من السحر. وقالت أعرابية: هو تحريك الساكن، وتسكين المتحرك.وقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك، وملك قاهر، ملك مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآرائها، قد أعطي عنان طاعتها، وقوة تصرفها، وقياد ملكها، وتوارى عن الأبصار مدخله، وعمي عن القلوب مسلكه. وقال بعضهم: مجهول لا يعرف، ومعروف لا يجهل، هزله جد، وجده هزل. وما أحسن قول الشاعر:
يقول أناس لو نعت لنا الهوى ... ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
فليس لشيء منه حد أحده ... وليس لشيء منه وقت موقت
قال في "تزيين الأسواق": العشق يختلف باختلاف المزاج على أنحاء أربعة: سريع التعلق والزوال كما في الصفراويين، وعكسه كما في السوداويين، وسريع التعلق بطيء الزوال كما في الدمويين، وعكسه كما في البلغميين. عن ابن عباس، رفعه، قال: "من عشق فعف فمات دخل الجنة". زاد الخطيب عنه: "فظفر" ثم أبدل قوله: "دخل الجنة" بقوله "مات شهيدا" وفي أخرى: "وكتم"، والحديث بسائر ما ذكر صححه مغلطاي وأعله البيهقي والجرجاني والحاكم في "التاريخ" بضعف سويد وتفرده به، ورواه ابن الجوزي مرفوعاً، وأبو محمد بن الحسين موقوفا، وأخرجه الخطيب عن عائشة مرفوعا أيضا، وضعفهالحافظ بن القيم في "الهدي" بجميع طرقه، وأظن أنه الصواب، وإن تضمنه الأكابر في أشعارهم. وفي أثر ابن عباس أيضا: "الهوى إله معبود". وعن الغزي، قال: رأيت عاشقين اجتمعا، فتحدثا من أول الليل إلى الغداة، ثم قاما إلى الصلاة. ووردت أحاديث كثيرة في العشق مع العفة. قيل لعذري: أتعدون موتكم في الحب مزية، وهو من ضعف البنية، ووهن العقل، وضيق الرئة؟ فقال: أما والله لو رأيتم المحاجر البلج، ترشق بالعيون الدعج، من تحت الحواجب الزج، والشفاه السمر، تبسم عن الثنايا الغر، كأنها شذر الدر، لجعلتموها اللات والعزى وتركتم الإسلام وراء ظهوركم. وبنو عذرة مختصون بمزية الحب وإيثار العشق، ولا تضرب الأمثال إلا بهم. وقال بعض حكماء الهند: ما علق العشق بأحد عندنا إلا وعزينا أهله فيه. وحكى الحافظ مغلطاي: إن العشق يختلف باختلاف أصحابه، فإن الغرام أشد ما يكون مع الفراغ وتكرار التردد إلى المعشوق والعجز عن الوصول إليه، فعلى هذا يكون أخف الناس عشقا الملوك، ثم من دونهم، لاشتغالهم بتدبير الملك وقدرتهم على مرادهم، ولكن قد يتذللون للمحبوب بما في ذلك من مزيد اللذة، ودونهم أفرغ لقلة الاشتغال، حتى يكون المفترغ له بالذات أهل البادية لعدم اشتغالهم بعوائق، ومن ثم هم أكثر الناس موتا به. ونقل ابن خلكان في ترجمة العلاف: إن العشق جرعة من حياضالموت، وبقعة من رياض الثكل، لكنه لا يكون إلا عن أريحية في الطبع ولطافة في الشمائل، وجود لا يتفق معه منع، وميل لا ينفع فيه عذل. ووجد على صخرة: العشق ملك غشوم، ومسلط مظلوم، دانت له القلوب، وانقادت له الألباب، وخضعت له النفوس، فالعقل أسيره، والنظر رسوله، واللحظ عامله، والتفكير جاسوسه، والشغف حاجبه، والهيمان نائبه، بحر مستقر غامض، ويم تياره طافح فائض، وهو دقيق المسلك، عسير المخرج.
( كتاب نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان - أبو الطيب محمد صديق خان)