مبحث في أسباب العشق وعلاماته
قال بعض الأطباء: سببه النفساني الاستحسان والفكر، وسببه البدني ارتفاع بخار رديء إلى الدماغ عن مني محتقن، ولذلك أكثر ما يعتري العزاب، وكثرة الجماع تزيله بسرعة، وعلامته: نحافة البدن، وخلاء الجفن للسهر، وكثرة صعود الأبخرة، وغؤور العين وجفافها إلا عند البكاء، وحركة الجفن ضاحكة كأنه ينظر إلى شيء لذيذ، ونفس كثير الانقطاع والاسترداد والصعداء، ونبض غير منتظم، ولاسيما عند ذكر أسماء وصفات مختلفة، وتغير اللون وتنفس الصعداء. قال ارسطاطاليس: للعشق من النجوم زحل وعطارد والزهرة جميعا.
فزحل يهيئ الفكرة والتمني والطمع والهم والهيجان والأحزان والوساوس والجنون، وعطارد يهيئ قول الشعر ونظم الرسائل والملق والخلاعة، وتنميق الكلام، وتليين المرام، والتذلل والتلطف، والزهرة تهيئ للعشق والوله والهيمان، والرقة والتلذذ بالنظر، والمؤانسة بالحديث، والمغازلة الباحثة على الشبق والغلمة، والميل إلى الطرب وسماع الأغاني وما شابهه. ومن علاماته: إغضاء المحب عند نظر محبوبه إليه، ورميه بطرفه نحو الأرض من مهابته له، وحياؤه منه، وعظمته في صدره، واضطراب يبدو للمحب عند رؤية من يشبه محبوبه، أو عند سماع اسمه، وحب أهله وقرابته وغلمانه وجيرانه وساكني بلده، وكثرة غيرته
عليه، ومحبة القتل والموت ليبلغ رضاه، والإنصات لحديثه إذا حدث، واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال، وتصديقه وإن كذب، وموافقته وإن ظلم، والشهادة له وإن جار، وإتباعه كيف يسلك، والإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمد للقعود بقربه، والدنو منه، وإطراح الأشغال الشاغلة عنه، والزهد فيها، والرغبة عنها، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى فراقه، والتباطؤ في المشي عند القيام عند وجوده
بكل ما يقدر عليه مما كان يتمتع به قبل ذلك حتى كأنه هو الموهوب له، وهذا كله قبل استعار نار الحب، فإذا تمكن أعرض عن ذلك كله وبدله عن ذلك كله وبدله سؤالا وتضرعا كأنه يأخذه من المحبوب، حتى أنه يبذل نفسه دون محبوبه، كما كانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله. ومنها: الانبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، والمحاربة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، وكثرة التمطي والتكسل إذا نظر إلى محبوبه، إلى غير ذلك مما لا يحصى. فهو ألطف موجود نشأ في الوجود، وأعز مقصد لذي الهجود. وقال المعلم: العشق نصف الأمراض، وشطر الأعراض، وقسيم الأقسام، وجل الآلام. وله مراتب سبعة تدريجية ذكرها داود الأنطاكي، ولو منح الله شخصا مددا يستغرق المدد، وحياة تستفرغ الأبد، وفراغا يذر الشواغل سدى، ونفحات قدسية تصقل مرآة عقله لقبوله الفيض أبدا، وأفرغ ذلككله في تحرير ما أودعه عمر بن الفارض من مراتب العشق وأدواره، وتنقلاته وأطواره، لفني الزمان ولم يدرك معشاره، وبادت الأكوان ولم يعرف قراره، ولولا ضيق عطن هذا المختصر، لأوضحت لك من بعض تدقيقاته في أقل كلماته ما يدعك في حيرة الفكر، وببحار العجب غارقا، ويسكتك وإن كنت مصعقاً ناطقاً.
( كتاب نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان - أبو الطيب محمد صديق خان)